יום רביעי, 28 ביולי 2010

الفصل الرابع:
الولايات المتحدة وتوظيف "الاسلام الجهادي" في حربها على الاتحاد السوفييتي:

جدلية الارادة والمبادرة والانتاج:
أنا أريد إذن أنا موجود:
إذا كان الفيلسوف الرياضي الفرنسي الشهير ديكارت (1596-1650) صاحب منهج الشك، قد قال: "أنا أفكر إذن أنا موجود"، وجاء اليوم عالم المنطق المغربي طع عبد الرحمن، وهو يقيم مشروعه الفلسفي العربي الاسلامي، ووجد أن الصيغة الديكارتية طويلة. وبمقتضى رأيه أن الترجمة بشكل عام لا ينبغي ان تكون نقلا حرفيا للصيغة والمعنى، بل ينبغي ان تتضمن فهم المترجم لها ومن ثم صياغتها صياغة تحاول ان تثري الترجمة، بإضافات من خلال عملية الترجمة.(1) ولهذا وضع طه عبد الرحمن بدل عبارة ديكارت المذكورة عبارة: "أنظر تجد" فوضع التأكيد والأهمية على النظر والوجود .. وعلى ضوء الواقع العربي السياسي، وغياب العزيمة الماضية، ومن ثمّ تدهور الدور العربي، يجعلني أقول قولا يختلف: "أنا اريد إذن أنا موجود" أو إذا اردنا الاختصار قلنا: "من أراد وجد".
فما هي هذه الارادة؟ ما دورها في تغيير واقع الأمة؟ وهل من الممكن إنتاجها؟ هل هي ارادة الانسان المطلقة التي نادى بها الفيلسوف الالماني كانت، حين أطلق إرادة الانسان في تجريد مطلق، فأصبحت موازية لإرادة الله سبحانه، بمعنى لا حدود لقدرتها. فقد خاطب كانت الانسان المجرد بصياغات مطلقة .. وكذلك فهي تختلف عن مجموع إرادات المواطنين بشكل حسابي تعسفي كما فهمها جان جاك روسو. وفي مقابل ذلك فإني أميز بين نوعين من الارادة:
1: الارادة الخلقية الفاعلة.
2: الارادة الفردية المغلقة.
1:1 الارادة الخلقية الفاعلة، هي الارادة المندمجة المتواصلة، بين ارادة الفرد، وارادة الأمة، او المجتمع. وهذا التفاعل والتواصل يقوم بضخ القيم الاخلاقية والمبادئ النبيلة العالية من والى الارادة العامة.
2:1 ولا شك كذلك، أن الفرد الذي يملك قيما وأخلاقا عالية، يكون نصيب نشاطه وتأثيره في الارادة العامة بقدر ما يحويه من قيم ومبادئ وكذلك بحجم عطائه. وهكذا يتفاوت العطاء من قيم الارادة العامة الى الأفراد وبالعكس بمقتضى الأداء الإرادي، ودرجة انفعاله بمنظومة القيم العامة.
3:1 الارادة الخلقية الواعية، المنبعثة من نفس مشحونة بالمفاهيم والمضامين والقيم، فلا فراغ لديها يمكن ان يتيح التسلل اليها من خارجها. وإنما يجيء تعاملها مع الواقع حولها من خلال التفاعل النشيط، الذي ينفعل مع الآخر، من خلال منظومة من المفاهيم والمضامين القيمية. فيؤثر ويتأثر الى الدرجة التي لا تـُخلُّ بارادته او تحدث فيها اهتزازا يفقدها حرية الحركة الذاتية المنبعثة من قيمها العامة، والتي تحافظ على خصوصيتها الشخصية. وإنما يكون تفاعلها مع الآخر من اجل إثراء تجربتها من خلال التلاقح والتفاعل المشترك – لا من خلال إخلاء المواقع، والاستسلام لإرادة الغير.
4:1 الإرادة الخلقية الواعية والمتصلة، تنبعث من خلال رسالة قيمية اخلاقية واضحة، تعطي الصمود والتحدي معان إنسانية مطلوبة، بحيث يتوفر فيها محفزات للشعور المشترك والوجدان الانساني العام، ومن ثم للعمل المشترك مع الآخر.
5:1 وهي كذلك واعية، بمعنى أنها تـُصقل من خلال ضوابط معرفية تقوم على اسس البحث والتحري والتحليل العقلي الحر .. فتوفير المناخ العلمي والتربوي والثقافي الذي ينتج ويطور آلياته العقلية، وبالتالي يتمكن من تطوير العقل ذاته، بما هو عقل منفعل في بيئته ووسطه ويُنتج ذاته (اي العقل) في جدلية صاعدة دوما، تعمل على فتح حقول معرفية، ومجالات علمية ثقافية باستمرار.
6:1 وهي اخلاقية، لأنها تعمل من خلال منظومة قيمية عامة بحيث تضخ هذه القيم فيما حولها بتواصل حي مستمر، قيم الحب والخير والفضيلة المرتكزة الى مبادئ العدل والحق والعفو والتسامح، القائمة على الصدق والاخلاص والتضحية.
7:1 الارادة الاخلاقية الواعية، هي التي تريد ما هو معقول وما يمكن تحقيقه، وهي ارادة عاقلة لأنها تعقل ما تريد، فلا تريد ما لا تستطيع تحصيله ماديا او ادراكه عقليا، وهذا تمييز لها عن الارادة الواهمة التي تتحرك من خلال الوهم، والخيال الباطل، فتريد ما لا تستطيع تحقيقه، ولا هيئت ذاتها وواقعها لتحقيقه، ولا غيّرت ذاتها لكي يتسنى لها تغيير واقعها. وهذا حال الافراد والشعوب العاجزة الكسولة، التي لا تحسن غير التمني على الله الأماني.


الفرد الأمة الانسانية

الارادة الاخلاقية الواعية والمتصلة

2- الارادة الفردية المغلقة:
1:2 وهي فردية، لأن الفرد يمثل المركزية المنطوية على ميولها وأهوائها وأطماعها، فهي لا ترى الآخر إلا من خلال ما يقدمه لها من منافع، وما يمكن ان تجنيه من بناء علاقة معه .. حيث ان الهوى والنزوة والشهوة الشخصية هي القيم المحفزة لنشاط هذه الارادة الانانية وترى في كل ما حولها خادم لها ينبغي استغلاله بالطرق والاساليب الناجعة. وهذه الإرادة تريد ما في أيدي الآخرين، وترد ان تحتكر لنفسها كل شيء. من هنا فإن ذلك سوف يقود الى الظلم والاستبداد والقهر. وهذا يبعث الاحقاد والضغائن بين الناس. فبدل ان تقوم علاقة الناس فيما بينهم على المشاركة والتكامل تقوم على الاكراه والاستغلال. وبهذا فهي منغلقة على الذات ومصالحها.
2:2 وبما انها تقوم على مركزية الذات، فقيمها مستمدة من مغالاتها في حب الذات، وترى ان ما حولها قيمته فيما يستطيع تقديمه او توفيره لها.
3:2 وبما ان قيمها تقوم على اغتصاب ما عند الغير، وظلم الآخر واحتكار الخير للذات فقط، فلا بدّ من اعتماد أساليب البطش والاكراه والكذب والخداع والتضليل.


الانسانية الأمة الارادة الفردية المغلقة


الارادة الفردية المغلقة

ولكلا الارادتين حضور، ولكن شتان بين حضور وحضور. واذا ترادفت معاني كل من الحضور والوجود، بحيث تحوي مضامين الفاعلية والتأثير عن طريق الانتاج والابداع والمبادرة. وهكذا فإن أعلى درجات الحضور هو حضور الارادة الخلقية المنتجة. وهكذا فبينما:
1- يكون حضور الارادة الخلقية الواعية والمتواصلة حضورا منتجا لقيم الحب والخير والفضيلة، ومستمدة من مبادئ الحق والعدل معتمدة اسلوب الصدق والاخلاص والتضحية من اجل الناس جميعا، وبهذا يكون حضورها حضورا اخلاقيا مبدعا انتاجا قيميا عاليا، انتاجا انسانيا بكل المعاني والمفاهيم.
2- وأما حضور الإرادة الأنانية المغلقة فهو حضور تضخيم ل"الأنا"، الأنا التي تطمح في امتلاك كل شيء، مدفوعة بقيم الجشع والطمع والاستغلال. وهذا لا يتحقق بغير ممارسة الظلم والطغيان والإكراه القائم على الكذب والخداع والتزييف. هذه هي مبادئ الشر ولكي تبسط نفوذها، لا بد من امتلاك القوة القهرية وآلات الحرب التي تخضع ارادة الآخر حتى يتاح لها التوسع الافقي السطحي لنهب ما يملكه الآخر. بينما، في مقابل ذلك، فإن الارادة الخلقية يكون حضورها من خلال المشاركة والتكامل امتدادا أفقيا بين المجتمعات والشعوب، وعمقا ايمانيا في النفوس والقلوب والعقول .. أما الارادة القمعية المغلقة فحضورها حضورا قسريا وقهريا بين الناس يقوم على مبدأ السيطرة والاغتصاب، فلا تدخل لقلوب الناس او تشغل عقولهم من قريب او بعيد.
3- الارادة الخلقية الواعية او العاقلة هي الارادة التي تريد ما هو معقول، وما يمكن تحقيقه .. وهذا ما يميزها عن الارادة الغافلة المستنومة، التي تتحرك من خلال سيطرة الماضي او الغير على الحاضر، حيث يفكر الماضي او الآخر للحاضر وينتجه نسخا متنوعة بمقتضى الاحداث .. عندها تتخيل الارادة الغافلة المغلقة، أن الماضي والتراث له قوة الوجود المادي خارج حدود الحاضر الواقعي والموضوعي المتمثل في الناس الموجودين ويتخيلها كانها فعل الأعاجيب، حيث لا حدود لقدرتها.

من بات على غير مبادرة او انتاج ذاتي، فقد أمسى على تبعية وظيفية:
عندما يملك الانسان ارادة حرة مستقلة وواعية، وتكون حاضرة حضورا فاعلا، لا بدّ لها إلا ان تريد، وما تريده سيترجم عملا متجسدا في واقع الحياة بمجالات متنوعة وحقول متعددة على المستوى المعرفي النظري، سواء كان ادراكا عقليا، او على شكل عملي. والارادة الخلقية الواعية، لا بدّ لها ان تفرز حركة عقلية في مجال قيم الخير والحب والحق والعدل والفضيلة، وسلوكا عمليا مشحونا بهذه القيم على مستوى علاقته مع الغير. ومن هذه العلاقة التي تفرزها ارادة الحق والخير والفضيلة يتكون نسيج المجتمع فيفيض حبا ورحمة وحنانا وتواصلا انسانيا .. هذه بعض سمات ارادة المسلم الذي يعيش بكتاب الله ولكتاب الله. ولا دخل لهذه الارادة بتلك الارادات التي تحاول ان تغتصب شكليات الاسلام وطقوسه الصورية، مثلها كمثل الجسم الذي يطلى بطلاء خارجي يزول عنه طلائه مع اول تعرض له لعوامل التعرية .. وهكذا المسلم الشكلي الذي يعتقد ان الاسلام يقف عند اللحية والقبعة والثوب الطويل، فعند اول أزمة او شدة يتعرض لها فإذا هو بركان يقذف حمما من الحقد والكراهية. واذا به جشعا طماعا حريصا على الدنيا وزينتها .. فيذهب عنه طلاء الزهد، ويخلع ثوب التقوى، ويعود واحدا من هؤلاء الذين يزدحم بهم سوق الحياة.
وهكذا لا يكون الانسان مبادرا حتى يملك ارادة حرة، تعمل مستقلة من اجل ما تريد. فالانسان المبادر، هو الذي يملك ارادة وشخصية مستقلة، استطاعت ان تمتلئ وتتشبع بقيم المعرفة اليقينية واتساع مدارك العقل الذي يملك القدرة على دراسة الأوضاع وتحليل الحالات المتشابكة والمعقدة، فيقدم الدراسات، ويضع البرامج والمخططات، لتحقيق الغايات والأهداف. ويعمل في اتجاه تحقيق هذه الخطط، بانتاجه للوسائل واللآليات التي تحقق هذه الاغراض .. وهكذا تتكون لدينا إرادة مبادرة منتجة تحقق برامجها وتوظف امكانياتها وطاقاتها من اجل تحقيق اهدافها هي وغاياتها هي ..
ولا يكون المرء مبادرا حتى يتحلى بكثير من سمات المغامرة، وركوب المخاطر، ولكنها تظل مغامرات ومخاطر محسوبة، سواء كان الأمر في عالم الأفكار، أم في عالم الاشياء. فالمبادر متحرك بطبعه، وحركته حركة ذاتية مستقلة، لا تعرف الجمود وحياة التقليد والعادة. فهو يبادر يمقتضى برنامج ومخطط مدروس، تمييزا له عن كل رد فعل عفوي وارتجالي. والمبادر لا يكون كذلك حتى يكون منتجا ومبدعا حاضرا في الأحداث مؤثرا ومنتجا.
وبما ان المرء لا يمكن إلا أن يكون موظفا وعاملا، ولهذا فمن استطاع ان يوظف نفسه في برامج وخطط من عند نفسه كان اراديا مبادرا ومنتجا ومن لم يكن كذلك فلا بدّ ان يُوظف من قبل الغير .. لأن الحالة الطبيعية للإنسان، إما ان يكون منتجا له ولغيره، فيستهلك من انتاجه وإبداعه، وإما ان يكون غير منتج فهو إذا مستهلكا عالة على الآخرين. والانتاج هنا عاما، فكما قد يكون انتاجا فلسفيا في مجاله النظري والفكري والثقافي فقد يكون انتاجا عاطفيا وجدانيا في مجال الأدب. وقد يكون عملا ابداعيا في المجال الصناعي او الزراعي، وغير ذلك.
والإنسان كمستهلك، إما ان يستهلك مما ينتج، وإما ان يستهلك مما ينتجه الآخر، ولفظ الآخر هنا هو كل ما ليس مطابقا او متشابها للذات الفاعلة، الآخر هو الخصم المعارض والمخالف والمنافس من الأمم الأخرى. والمنتج هو صاحب الارادة الفاعلة التي تبادر الى ابداع انماط وأشكال مما يحتاج اليها الناس. والانتاج لا يصدر إلا عن شخصية حرة مستقلة عاقلة. والانتاج المعرفي والفكري هو الاساس في كل ابداع في مستواه الانساني، كما هو على مستوى الفرد .. ومن لا يبدع وينتج الأفكار فسوف يستورد الأفكار التي يستهلكها مما قد ينتجه الآخر. والأمر لا يستدعي المبادرة الى عملية الاستيراد، وإنما بمجرد التوقف عن الانتاج تستدعي قابلية التلقي من الغير، قابلية أخذ الصدقات من أيدي المحسنين، وهذا الآخر في بداية الأمر يكون هو الماضي، هو التراث الذي يجترة الحاضر، فيستمرئ التلقي عن الماضي، حتى يصبح الماضي شبيه بالمقدس. وتبدأ عملية التقليد، تقليد الآباء والتراث، فيتحول المجتمع الى مجتمع أبوي يفكر فيه الآباء للأبناء، والماضي للحاضر. ويبدأ كل ذلك، عندما تتوقف الارادة الفاعلة عن فعل الارادة وتتوقف كذلك عن تصور او تعقل فعل الارادة .. ومثل ذلك كمثل الجهاز المنتج الذي يتكون من عدة أجهزة منتجة، إذا تعطل جهاز أثر بشكل ملحوظ على مجمل عمل الأجهزة الأخرى .. وهكذا فإن الجدل او الحوار الحي المنتج بين الارادة الخلقية الفاعلة وقوة التصور والتعقل، وبين ملكة المبادرة والانتاج والابداع، إذا تعب أو قلّ إنتاجه، تبعا لذلك، فسوف يبدأ المرء (بمعنى الحاضر) يستهلك من شحمه المخزون، كالجمل اذا جاع تغذى من سنامه .. حتى تتوقف عملية الانتاج، وينتهي المخزون التراثي الحي، تبدأ عملية الاستهلاك مما ينتجه الآخر. وتصاب عندها الارادة بالضعف، ويتعطل جهاز التعقل والمبادرة والانتاج، ويصبح الماضي او الآخر الغائب هو الذي يفكر للحاضر ويصبح الحاضر ما هو إلا انتاج الماضي او الآخر ويستنسخ منه نسخا فارغة من حرارة الماضي او حرارة الآخر. وهكذا تعاني الامة بمجموعها من خصوبة في استيراد أنماط من الماضي او من عند الآخر. ويتحول الماضي، كلما تقدم الزمان الى ما هو أشد خطورة من الآخر الغريب، حيث يتحول الى مقدس من الصعب الافلات من قبضته وتمسي مقاومته عسيرة مكلفة .. وهذا وضع يضعف جاهزية المناعة والمقاومة لدى الامة وبالتالي يسهل توظيفها عند غيرها، عند الاخر، خاصة عندما يكون هذا الاخر هو عدوها.
وتصبح حال الامة في كل المستويات، حال الضعيف المحتاج الذي يطور لديه قابلية التلقي من الغير. فإن حركة الطبيعة لا تعرف التوقف او الجمود، ولا تعرف كذلك الفراغ. فعندما يحصل فراغا في منطقة ما فسوف تملأة حركة الطبيعة، سواء كان فكرا وثقافة ام مادة تصنع .. وأول ما يحدث الفراغ عند الانسان يبدا بقلبه وفكره، فعندما لا يبدع ولا ينتج فكرا متجددا باستمرار فإنه بهذا يكون كمن يعاني من منخفض ثقافي يستدعى بشكل تلقائي هبوب رياح الفكر والثقافة من خارجه، والخارج هنا هو الماضي والآخر .. والذي لا ينتج يكون قد توقف عن الابداع وقتلت عنده روح المغامرة والمبادرة .. فتتعطل عنده شهية الارادة الفاعلة .. وهذا كله مرهون بالمناخ الاجتماعي والسياسي والثقافي العام، فكلما كان المناخ اكثر حرية، اكثر صبرا على المخالف والمعارض كلما كان الوضع الصحي للامة أفضل، وكلما استحكم البغي والظلم والاستبداد انكمشت المساحة التي يعمل فيها العقل وعند غياب العقل يحضر الجهل والكسل ومن حضر الجهل وكان الكسل رديفه وناخ بساحته فقد آن له ان يفتش عن آلة التسول عند الأمم المانحة وهكذا تكون ارادة الأمة الفاعلة، إما أنها قد شاخت او انها قد ضعفت، مما يؤذن بتحويلها الى ملجأ للعجزة تعيش على اموال المانحين. هكذا ينجح اعداء الأمة بحقنها بداء العجز والكسل بزرع هذه الكيانات الغريبة في جسم الأمة بحيث تقودها في كل طريق، غير طريق العافية والصحة الطريق التي تحيي بها قلوب ابنائها وتعيد اليها شبابها المتجدد دوما بإحياء كتاب الله في واقع حياتها ..


جدلية الله، سبحانه، والتراث:
تعقل الواقع مدخل لتغييره:
قيل في المأثور: "أن الايمان ما وقر في القلب وصدّقه العمل"، وهذا يعني بكل وضوح أن الايمان بعقيدة ما أو فكرة معينة ينبغي ان ينفعل بها الانسان في واقع حركته ونشاطه، فيمارسها ليس نظرية تدرس فقط، وإنما يعيشها بعقله ووجدانه قولا وعملا. فهي ميزانه الذي يزن به كلّ حركة في وجوده، حركة وسكونا، عقلا ووجدانا، علما وعملا. وعندما يتوقف الايمان عن النشاط والحركة في المجالات المتنوعة التي ذكرناهاـ يبدأ بالتحول من ايمان فاعل اى تراكم تراثي وعرفي والى تقاليد وعادات، جامدة تلامس نشاط الانسان عند حافته ولا تدخل الى قلبه وفكره، عقلا وشعورا، وتتحول الى نصوص جامدة مقدسة، تبقي على الصورة والشكل، وتموت فيها المعاني فلا يبقى من الايمان والعقيدة غير صيغ منحوتة من الماضي، تثير الاعجاب والتقدير أكثر من ان تثير حركة عقلية وجدانية في حياة الانسان .. وهكذا يتحول الدين الى نصوص فقدت حركة المعاني فيها غير قادرة على أن تغيّر ما في النفس البشرية لأنها لا تدخل إليها وإنما تلامسها عند سطحها، عند قشرتها، فتتحول مبادئ ومفاهيم الدين الى طقوس جامدة تحسبها صلاة وما هي بصلاة وتحسبه صوما وما هو بصوم، وتحسبه زهدا وخشوعا وتقوى، وهي لا تزيد عن ان تكون سحنة يتكلفها المرءُ ويرسمها لحية على وجهه وثوبا طويلا وسبحة بين يديه، وقياما وقعودا، وتتحول الدعوة للايمان الى هتافات وصراخ ينتهي عند الشعار والكلمات ويصبح المهرجان الحاشد هو غاية النجاح ونهاية المقاصد .. لكن يظل عجز الامة وضعفها يسخر من تلك الممارسات التي لا تصل الى معقل الارادة فتفك أسرها وتطلقها من سجنها، لكي تنفعل الارادة مع الواقع دراسة وفهما وعقلا، ومن ثم تعمل لتغييره. والتغيير يبدأ بالنفس، فإذا استطاع تغييرها وتحريكها في اتجاهات محددة يستطيع بعدها ان يبدأ بتغيير واقعه الموضوعي من حوله. ونحن نتحدث عن فك أسر الارادة الخلقية الواعية المتفاعلة بحركة ذاتية وبحركة في واقعها، لأن التغيير لا يتوقف عند حدود معينة، بل إن كل تغيير ايجابي في الارادة والنوايا والمقاصد يتبعه او يتزامن معه تغيير في الواقع الخارجي، لأن التغيير الداخلي يعني تغيّر نظام الرؤيا في الذات تجاه الآخر، فتصبح الذات ترى الواقع الموضوعي من خلال منظوماتها المعرفية والقيمية الخاصة. وتحاول تغيير هذا العالم بمقتضى معاييرها الذاتية، بحيث تترك بصماتها وإسهاماتها في هذا الواقع. وهذا ما نعنيه في قولنا ان الحضارات الانسانية حضارات متكاملة من خلال المفاعلة المشتركة بينها، بمعنى التلاقح الحضاري والثقافي فجدلية الحضارات وحوارها أصدق تعبيرا وأكثر إنسانية من مقولة حرب الحضارات، فالحضارة التي تعمل جاهدة من اجل القضاء على غيرها من الحضارات وإنهاء دورها ووجودها، هي موجات همجية بربرية لا يحتملها التاريخ الانساني طويلا، وإنما هي لا تتعدى الطفرات والاستئناءات في حياة الناس. لأن قانون التوازن النسبي في الوجود يمنع ذلك، ويقوم كما اراده الله ان يكون: "قل كل يعمل على شاكلته، فربكم اعلم بمن هو أهدى سبيلا" (الاسراء: 84) وكذلك قوله: "قل يا قومي اعملوا على مكانتكم اني عامل" (الانعام 135 وكذلك هود 93) وقوله تعالى: "وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون" (هود 121) وقوله: "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا" (المائدة 48).(2)
وهذه الآيات وغيرها العديد من الآيات التي تتحدث عن معجزة الاختلاف فالاختلاف والتعدد آيات من آيات الله، وكل محاولة لجمعها على صعيد واحد فهو كمن يجمع تخالفها على تشابه واحد ومحاولة كهذه سوف تفشل، لأن الاختلاف مع التكامل هو سنة الله سبحانه في هذا الخلق. انظر الى قوله تعالى: "وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله..." (الانعام 141). فالاختلاف ليس بين البشر فقط، بل في الطبيعة كلها في النباتات والحيوانات كما هو في المادة من تراب وجبال وغير ذلك فهو سبحانه يقول: "ومن الجبال جددٌ بيض وحمر مختلف الوانها وغرايب سود" (فاطر 27) وكذلك قوله تعالى: "ومن الناس والدواب والانعام مختلف الوانه .." (فاطر 28). ثم ان الله سبحانه قد جعل الناس مختلفين ليس فقط في الوانهم وانما بأفكارهم واقوالهم وعقائدهم، ولهذا جعل لكل منا شرعة ومنهاجا، ولذلك طلب الى بني البشر ان يعمل كل بمقتضى ما يؤمن به "اعملوا على مكانتكم ..." اعملوا بما ترونه مناسبا، وقفوا المواقف التي ترضون بها. ولذلك فقد أوضح، سبحانه بصيغة القسم ان السماء لا تشذ في اختلافها فهي ذات طرق مختلفة "والسماء ذات الحبك * إنكم لفي قول مختلف" (الذاريات 7، 8) وكذلك فقد أخبرنا الله، سبحانه ان الاختلاف هي سمة الخلق، ولن يكون الخلق غير ذلك كما يؤكد قوله تعالى: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم .." (هود 118، 119). إذا قد خلقنا الله مختلفين ليس فينا واحد نسخة طبق الأصل عن غيره، وكل محاولة لجمع الناس على عقيدة واحدة وعلى ثقافة واحدة وفكر واحد، هي محاولة تعمل ضد الفطرة التي تتميز بالاختلاف، ولكنه الاختلاف المكمل والمتمم وليس الاختلاف الذي يلغي بعضه بعضا. من اجل ذلك فلن تنجح محاولات الولايات المتحدة الامريكية، مع ما لها من جبروت وقوة وسيطرة لن تنجح في ان تجعل من الاختلاف الثقافي والفكري امرا متشابها تغيب فيه القسمات المتميزة والسمات المختلفة وخصوصيات كل فرد، وكل أمة ... فحضارة البرابرة والتتار كانت تقوم على اسس إلغاء الآخر، من أجل ذلك، بطش التتار بمكتبات بغداد وحضارتها فأغرقوها في دجلة والفرات. وهذه الولايات المتحدة اليوم تفرض على الأمم المغلوبة تعديل برامجها الثقافية وإلغاء كل ما يخالف ثقافتها، في مقابل ذلك نرى ان الثقافة الاسلامية والدين الاسلامي يخالف ذلك حيث رأينا ان نظرة الاختلاف والتعددية هي سمات مميزة في تعاليم الاسلام على الرغم من ان المبادئ والمفاهيم التي جاء بها الاسلام والانبياء جميعا كانت تختلف عما هو منتشر بين الناس، ولكنها لم تلغها او تبطلها، بل اوجبت التعايش مع الآخر المخالف، وان لكل جعلنا شرعة ومنهاجا وأن الله جعل الخلق مختلفين في عالم المادة كما هو في عالم الانسان والحيوان والنبات، وكما هو في الارض فإنه يطول ايضا السماء. القرآن الكريم جاء مصدقا لما بين يديه من التوراة والانجيل. بل ان القرآن الكريم يطلب من اليهود والنصارى ان يقيم كل طرف منهم شريعته وأن يحكم بموجبها يقول تعالى: "وليحكم اهل الانجيل بما انزل الله فيه .." (المائدة 47). فهذه دعوة للنصارى ان يقيموا في حياتهم مبادئ دينهم كما وردت في الانجيل وكذلك دعا اليهود في قوله تعالى: "قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة ..." (المائدة 68). حتى ان القرآن الكريم يعيب على بني اسرائيل الذين جاءوا يطلبون من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ليحكم بينهم فأجاب القرآن بالاستنكار الشديد: "وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله، ثم يتولون من بعد ذلك وما اولئك بالمؤمنين" (المائدة 43). "إنا انزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والاحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء ... ومن لم يحكم بما انزل الله (في التوراة) فأولئك هم الكافرون" (المائدة 44). وفي الآية 45 من سورة المائدة يبين القرآن الكريم ان الذين لا يحكمون بما انزل الله من احكام في التوراة من اليهود "... فأولئك هم الظالمون". ثم يطلب من النصارى مثل ما يطلب من اليهود: "وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة، وآتيناه الانجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين" (المائدة 46). "وليحكم اهل الانجيل بما انزل الله فيه، ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الفاسقون (المائدة 47) هذا هو الاسلام، هذه هي حضارته، هذه هي تعدديته، هذه هي نظريته وموقفه من الآخر المخالف، الذي لا يعترف فيه، يطلب اليه ان يبقى على عقيدته ودينه وهو يحفظ له ذلك. ثم جاء قوله تعالى يخاطب اتباع القرآن الكريم "وأنزلنا اليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب (التوراة والانجيل) ومهيمنا عليه، فاحكم بينهم بما انزل الله ولا تتبع اهوائهم عما جاءك من الحق، لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا، ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات الى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون" (المائدة 48). اذن هذا الخلاف في المناهج والشرائع هو امر من عند الله، وطلب، الينا كما توجه الى ذلك الايات الكريمة التي أوردناها ان نتنافس في فعل الخيرات والاعمال الصالحة، حتى يحكم الله بيننا، وأخرج من ايدي كل منا امر السيطرة او أمر اغتصاب الخيار من الآخرين. انما مرد ذلك ليس لي ولك، بل جعله القرآن الكريم ورده الى الله، سبحانه وتعالى. ثم يختتم القرآن العظيم بقوله: "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن..." (العنكبوت 46)، وكذلك: "وجادلهم بالتي هي أحسن" (النحل 125) وهذا خطاب يشمل جدال الناس جميعا بالتي هي أحسن. هذه الآيات القرآنية هي حجة على المسلمين قبل ان تكون حجة على غيرهم، فكل مسلم لا يأخذ بهذه التعاليم في تعامله مع الآخر، فهو جاحد لتعاليم السلام العظيم .. ونسأل ما هي القيمة الحقيقية على الصعيد العلمي والمعرفي لكل هؤلاء الذين يتهمون هذا الدين بأنه مصدر الارهاب..؟!

الله ليس تراثا أيها المسلمون:
لم تتعرض فكرة او نظرية في تاريخ الانسان الى التزوير والتحوير كما تعرضت فكرة الألوهية فهي على مدار التاريخ البشري تناولها الناس إما بنقد متكلف او بفهم غاية في الغرابة، حتى انه يكاد يكون لكل شعب إلهه الخاص به ويقيم له طقوس تعبديه تختلف. بل قد يصل الأمر ان لبعض المفكرين والفلاسفة تصوراتهم الخاصى عن الإله او الآلهة.
1- فاليونانيون قد جعلوا لكل موضوع اله، إله الشمس، والربيع وإله الجمال والجبال، والحروب، وكبير الآلهة .. وهذا ارسطو قد اعتقد ان الله، سبحانه، ليس اكثر من المحرك الاول، الذي اعطى دفعة الحركة لهذا الوجود ثم تخلى عنه ويعلم الكليات ولا علم له بالجزيئات والتفاصيل.
2- وبعض القبائل الافريقية وغير الافريقية، قد عبدوا الله بصورة الآباء والأجداد.
3- والفرس الذيم كانوا يؤمنون بالزرداشتية ولديهم إله للخير وهو أهورا مازدا Ahura Mazda الذي خلق النور والحياة وهو الذي يقيم العدل والحق بين الناس، في مقابل أهريمان Ahriman إله الشر والظلام والموت .. وفكرة المهدية عند الشيعة تشكل عقيدة أكثر مما هي عند عامة المسلمين وفكرة "المسيح" وعقيدة الخلاص عند اليهودية والمسيحية اصلها في الزرداشتية،حيث تؤمن انه في الأيام الأخيرة لعمر الكون سوف ينتصر الخير والعدل وتقوم حكومته Millannium.
وبما ان ايران هي بلاد المذهب الشيعي، فإن فكرة "الخلاص" أخذت لباسها الاسلامي بشخصية "المهدي المنتظر" الذي سيملأ الارض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا. وكذلك فإن اليهودية قد تاثرت بهذه الفكرة عن طريق يهود بابل.(3)
4- المانوية نسبة الى ماني الذي ولد عام 215 ميلادية وادعى ان المسيح قد بشر به وهو قد جمع بين المسيحية والزرادشتية وظلت أفكاره منتشرة في اسيا واوروبا حتى القرن الثالث عشر للميلاد.
وبما انه ليس هذا مكان تفصيل هذا الموضوع فلا بد ان نذكر بعض هذه الديانات التي حرفت مفهوم الإله منها: المزدكية، والغنوصية.
5- وأما المعتقدات التي سادت في بلاد الهند منها: السمنية وهي نسبة الى "سومنات" وهو صنم في الهند بقي حتى ازاله السلطان محمد بن سبتكين عام 416 هجرية .. وكذلك البراهمانية، وكلها تؤمن بنظرية تناسخ الارواح .. ثم الهندوسية ومذاهبها المتعددة .. ومن المذاهب الهندية ايضا المذهب الجيني الذي تأسس على يدي فاردامانا ماهافيرا Vardhamana Mahavira وقد عاصر بوذا في اواخر القرن السادس قبل المسيح وقد لقب بانه "المنتصر" Jina، وكانت عبادته سياحة ورياضات روحية، وقد يكون لمبدأ الخروج الذي تمارسه جماعة الدعوة والتبليغ من بين المسلمين اصول في عقيدة الجينية، حيث ان هذه الجماعة نشأت في بلاد الهند ..
وكذلك البوذية ومؤسسها سيدهارتا ولد عام 563 ق.م. ومذهب تانترا Tantra الذي ظهر في القرنين السابع والثامن الميلاديين وجعل طريق الخلاص من الالام والشر بمزاولة الطقوس الجنسية والسحرية ..
6- الكنفوشيوسية انتشرت في الصين وتعتقد ان كل ما يحدث على الارض هو بامر السماء، حتى ان "امر السماء" كمصطلح صيني يوازي مصطلح اللوغوس عند اليونان، او النفس الكلية. ودليل رضاء السماء هو وجود الانسجام بين سلسلة الموجودات بعضها مع بعض من المادة الحية العضوية وحتى الجماد. وكل شخص من طبقة النبلاء والأشراف وحتى عامة الناس، اذا ما وجد في نفسه الكفاءة لحمل المسؤولية، فإنه يستطيع ذلك، ودليل نجاحه وقدرته هو في انتظام وإتساق العلاقة بين الطبيعة والطبيعة، وبين الطبيعة والانسان، ثم بين الانسان والانسان فإن ذلك شهادة كافية ان الرجل يحكم بأمر من السماء.(4)
ومن يدرس هذه الديانات والمذاهب دراسة وافية يستطيع ان يرى بوضوح تأثير هذه المذاهب على بعض الفرق الاسلامية.

لقد أخطأ المسلمون عندما:
1- جعلوا قدسية البشري في مرتبة قدسية الله، سبحانه. سواء كان هذا البشري رسولا ام صحابيا حواريا او فقيها عالما .. فترى المسلمين قد زينوا مساجدهم، فوضعوا لفظ الجلالة "الله" عن اليمين ووضعوا مقابلا له اسم محمد، عليه الصلاة والسلام، بينما على المسلم ان يذكر دائما ان اقتران اسم محمد، صلى الله عليه وسلم بالله، جل جلاله هو إقتران عبودية وخضوع.
2- جعلوا حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو موضع جدل وخلاف يتراوح بين الصحيح المتواتر وبين الضعيف المردود، مصدرا للتشريع مثله كمثل كتاب الله، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ... كتاب الله المحفوظ من عند الله. بل لقد ذهب بعض علماء الإمة الى نسخ آيات من كتاب الله لفظا وإبقاء المعنى والحكم جاريا او عكس ذلك نسخها حكما والابقاء عليها لفظا ونصا.
3- أعطى بعض الأئمة الحديث درجة الاستقلالية عن كتاب الله بينما ينبغي ان يكون الأصل في الحديث مطابقا لما جاء به القرآن الكريم، ومفسرا له.
4- اعطوا درجة من القدسية للصحابي او بعض الأئمة والفقهاء حتى لا يستطيع المرء مناقشتهم. وانسحب الأمر على الشيخ والواعظ حيث أخذ يرى بنفسه وريث الاسلام دون غيره. ولا يسمح لأحد بالاعتراض عليه، دون ان يكلفه ذلك الكثير من راحته او سلامته. حتى اصبح شيوخ الحركة الاسلامية لا يجوز نقدها، فضلا عن مساءلتها، ودخلوا بذلك في المنطقة الحرام "اللامفكر فيها".
5- قيدوا معاني القرآن العظيم، واحيانا احكامه، باسباب النزول، مما يجعل كتاب الله الخالد كأنه جزء من التراث، يتحدث عن وقائع وأحداث ومناسبات خاصة، وكأنه مرهون بزمان دون زمان.
6- وفهموا بأنّ الدين عند الله الاسلام" هو كل ما جاء به الفقهاء والمحدثون والمفسرون، حتى لا يجوز الخروج على اجتهاداتهم. واغلاق باب الاجتهاد قبل المئات العديدة من السنين شاهد على ذلك. حتى جعلوه خاصا بالمسلمين وأنه إرثهم وحدهم وغاب المعنى الشامل لدين الاسلام، علىانه دين الكون كله، دين الانس والجن، دين الارض والسماء وما بينهما. ونسوا ان القرآن العظيم يجعل من اليهودية نسخة الاسلام الذي جاء بها موسى، عليه السلام وان النصرانية هي نسخة عيسى، عليه السلام، من هذا الاسلام .. كما ان دين الاسلام الذي جاء به محمد هو خاتم رسالات الاسلام لبني البشر.
7- استعاضوا عن الحضور العقلي الفاعل في دراسته وتحليله لدين الله بالنقل عن البشر، وكان النقل مرادف لوحي الله الى نبيه، عليه السلام، ووضعوا الشريعة في مواجهة الحكمة والعقل كأنهما ضدان لا يجتمعان .. وغفلوا عن القاعدة الفقهية العظيمة التي ترى ان العقل هو مناط التكليف في الانسان. وان القرآن الكريم قد جعل من العقل صفة وفعلا حيا حاضرا لا ينبغي تعطيله بشكل من الأشكال، وجعله حارسا للشريعة والدين وحافظا لهما ومستنبطا لأحكماهما.
8- واخذوا يفهمون القرآن الكريم من خلال التراث، حتى عندما يكون هذا التراث لمعتقدات ولشعوب قد ذهبت واندثرت فيمارسون هذه الطقوس والتراثات التي استنسخوها عن الأمم الأخرى ويتعبدون بها، بعد ان خلعوا عليها اسماء اسلامية كفكرة الخلاص المتعلقة بشخص محدد يظهر آخر الزمان، كفكرة المهدية والخلاص اليهودية والمسيحية والزرداشتية. وكعملية الخروج الذي تمارسها بعض فرق المسلمين في سبيل الدعوة لله.
9- جعلوا من قضايا التاريخ، صوابها وخطأها، عقائد ايمانية تمارس كشعائر دينية. تحرك عواطف الامة ووجداناتها الحاضرة .. الأمر الذي يجعل الماضي باخطائه يحاصر الحاضر والمستقبل، ويلغي دور العقل في دراسة واقع الأمة والتخطيط لمستقبلها. وهكذا يبقى المستقبل سجين دائرة فكرة الخلاص المهدية او المسيحانية الموعودة.
10- محاولة اغتيال حركة المعاني الحية المستمرة المنيعثة والمتجددة في نصوص القرآن الكريم .. مما يمنع اي وحدة يمكن ان تقوم بين المسلمين .. ولهذا نرى ان القرآن الكريم هو عامل توحيد بين المسلمين، بل يكاد يكون هو العامل الوحيد. بينما كل ما هو بشري، هو موضع خلاف بينهم. فإذا كان لا بد من نهضة اسلامية وعربية فلا بدّ من اعتماد مرجعية يعتمدها المسلمون جميعا، ويتركون كل مرجعية تبدد شملهم، وتفرق جماعتهم ..


استسلام بغداد وهزيمة الصيغة التراثية للإسلام:
إن قوى الوهم، وأدب الخرافة والاسطورة، التي شكلت القواعد المعرفية للنهضة العربية الحديثة، ممثلة بالطرح القومي مرة والاسلامي مرة اخرى، حين تمّ نسج مخيلة الأمة التاريخية وذاكرتها، بإعتمادها تصورات ومقومات عصور الانحطاط السياسي والثقافي في التاريخ الاسلامي .. لا سيما تلك الحقبة التي وقع فيها الحاضر العربي والاسلامي فريسة بين مخالب الماضي، يقلبه كيفما شاء. وهو يظن إنما يبعث أمجاده من جديد. وظن مستنهضوا الأمة كذلك، أن مجرد احضار النصوص سواء كانت دينية او تراثية مفرغة من معانيها الحية المتحركة، سوف ينهض بالأمة من وهدتها، ويعيد لها سابق مجدها. ولم يفطن هؤلاء أنهم يبعثون ماضيهم ويستنسخونه على حساب غياب حاضرهم ومستقبلهم. حتى ظلت الامة بغالبيتها تعيش هموم الماضي وقضاياه اكثر من ان تعيش همومها هي، هموم حاضرها وإسقاطاته.
كانت وما زلات تعيش أحداث رواية عنترة، والأميرة ذات الهمة، والزير سالم أكثر مما تعيش أحداث الحرب العالمية الاولى وضياع استقلال العرب بقيام دولتهم القومية. وما زال العرب والمسلمون يعيشون أحداث بدر الكبرى وكربلاء وصفين وحطين وغيرها من معارك المسلمين اكثر من ان يعشوا هموم فلسطين وشعب فلسطين، وفقر العرب والمسلمين وتخلفهم، واحتلال بلادهم. يعيشون ذكرى استشهاد الحسين اكثر من ان يعيشوا احتلال العراق واستسلام بغداد وضياع شبه الجزيرة العربية.
واحتفال العرب والمسلمين اليوم بإقامة المهرجانات الحاشدة إحياءً لذكرى معارك الماضي وامجاده يؤكد ان العرب اليوم هم خارج التاريخ او على هامشه في أفضل أحوالهم. لأن المرء إما ان يحتفل بانتصارات حققها الآباء والأجداد، وأما ان يعيش الأحداث بنفسه ويصنع التاريخ. لأن الذين يصنعون التاريخ لا وقت لديهم لإضاعته بإحياء ذكرى انتصاراتهم. لأن الانسان إما ان يعيش الهموم والأحداث وينفعل فيها، وإما ان يقف خارج الأحداث، بغير هموم حية ينفعل فيها. يراقب الأحداث وظهره مستند الى جدار او في ظروف أفضل أن يجلس على كرسي يلهو بحركة رجله هازءا من نفسه ومن واقعه.
من اجل ذلك يعيش الناس في العالم العربي والاسلامي الأحداث التي تمر بهم وتطحنهم. كانهم امام مهرجان تراثي يحيون فيه معارك خاضها غيرهم كمعركة بدر والقادسية وغيرها .. هؤلاء الذين هم خارج آتون المعركة يتفرجون على أحداثها كأنها مسلسلات تاريخية. وعندما تدور دائرة الحرب ويكتوون هم بلهيبها يتحولون الى مادة تثير شهية المشاهدة عند غيرهم.
وهكذا يتلهى بعض الأمة على بعضها الآخر، بل ولربما يشمتون بالآخرين الذين شمتوا بهم .. كل هذا يحدث لسبب واحد، هو اننا غير صادقين مع انفسنا، مع قضايانا، ولا نعيشها مشاعر وعواطف ووجدانات .. يحدث ذلك لأن انساننا قد أفرغ من قيمه ومفاهيمه ومثله .. وأفرغ بعد ذلك من ارادته وارهن مصير حاضره ومستقبله بيد ماضيه او بيد الآخر .. حتى اصبح يأمل من الماضي، من التراث او من الآخر ان يحارب حروبه سواء كانت، تخلفا او فقرا وحاجة او احتلالا .. كلنا يعيش متواكلا ينتظر حدوث المعجزة التي ستنشق عنها السماء ذات يوم ليهبط المسيح – عليه السلام وتنشق الرض، عن المهدي – عجّل الله فرجه – في يوم آتٍ لا ريب فيه، لكي يحاربوا عن الامة حروب الأمة وينتصروا لحقها فيرفعوا عنها الاحتلال والظلم والبغي وكذلك الفقر والتخلف .. المستضعفون من الأمة والمظلوموم ينتظرون من يحررهم. والمفارقات الغريبة ان الظالمين والمستبدين من الحكام ينتظرون ايضا وفود السماء والأرض كي تنصرهم على أعدائهم.!!! ولا يفطن أيا منا ان يغيّر ما في نفسه التي بين جنيه لكي يحق له ان يحلم بتغيير الواقع من حوله. واذا لم يستطع الانسان، هو نفسه تغيير نفسه .. بحيث يصدق معها، فلينتظر ما شاء له ان ينتظر فسوف لن تسعفه ارض ولا سماء.
وهذا الذي ما زال يميز واقعنا التاريخي العربي والاسلامي حيث رسب في وعينا وفي اللاوعي فينا ما يشبه اليقينيات بأن المهدي والمسيح – عليهما السلام – سوف يحاربون حربنا ونحن قاعدين نلهو بقضايانا، كما قالت بنو اسرائيل لموسى، عليه السلام: "اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون". حتى أصبحت الأمة عند كل منعطف من تاريخها، وما أكثر هذه المنعطفات ذات الانحدارات الشديدة – في تاريخها الحديث تنتظر المعجزة التي ستاتي بالمخلص يحارب عنها معاركها، ويهزم لها اعداءها .. يظن الكثير من قادتنا ومن جمهورنا، أن المسلمين يوم بدر او القادسية واليرموك وغيرها من المعارك كانوا يفوزون بالنصر من غير ان يبذلوا جهدا او دما وتضحيات، تماما كالذي يقدمه قادتنا وجمهورنا وهم يحضرون مهرجانات الذكرى لتلك المعارك والحروب. والتي تعرض عليهم سنة بعد أخرى .. حتى ذكرى مولد الرسول، صلى الله عليه وسلمن لم يحتفل به ابو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي، ولا اقاموا له المهرجانات، وما احتفلوا بيوم الهجرة ولا بالإسراء والمعراج، ولا بفتح مكة، لسبب بسيط هو كونهم مشغولون آنذاك بصناعة التاريخ والاحداث والوقائع .. يا ليت قادة الأمة عربها كمسلميها يعرفون ان لحظة صدق بين المرء ونفسه، وبينه وبين ربه، وبينه وبين قضاياه، أفضل عند الله من حضور الف مهرجان ومهرجان.
لقد أمست فكرة "المخلص" و"المنقذ" او "المهدي" و"مجيء المسيح" عليه السلام، تطفو على سطحية تفكيرنا من وقت لآخر، ومن أزمة لأخرى .. حتى أسماء المعارك نختارها من مخزون الوهم الذي يعيش في منطقة اللاوعي لدينا .. بينما تطلق الولايات المتحدة الامريكية على حروبها في شبه الجزيرة العربية اسماء تحمل تعبيرات الواقع: "عاصفة الصحراء" او "ثعلب الصحراء" او "الصدمة والترويع" وعلى اتفاقياتها "درع الصحراء" نرى النظام في العراق الذي يقتات على مخزونه التراثي (دائرة الملاحم والاساطير) قد أطلق على حرب الخليج الثانية التي خاضها ضد العالم أجمع من عرب وعجم، "أم المعارك" الاسم المستوحى من المعركة النهائية التي سيخوضها المسلمون بقيادة "المهدي المنتظر" والتي تشهد نزول عيسى – عليه السلام، المعركة نفسها التي ينتظرها اليهود والمسيحيون والزرادشتيون وغيرهم. وقد هيء لذلك النظام في العراق، ان ارجع اصل صدام حسين لآل بيت الرسول وابن الحسين ابن علي بن ابي طالب .. ثم اطلق على المعركة الثالثة والتي تمثلت بعدوان الولايات المتحدة على العراق اسم معركة "الحواسم" والتي ستحسم الحرب لصالح المظلومين والمستضعفين، وإعلاء راية الاسلام. حيث ينتصر فيها الحق والعدل على الظلم والبغى والعدوان.
أما آن لنا، أيها المسلمون، أن نعلم ان الله، جل جلاله، ليس حروفا ذهبية تعلق برقابنا، ونزين صدورفتياتنا، وليس كذلك حروفا نعلقها في مساجدنا وسياراتنا. بينما يتربع على قلوبنا كل أعداء الله، احتراما وتقديرا وتبجيلا .. أما آن لنا أن نعلم ان القرآن الكريم وآياته نزلت لكي تغير ما في نفوسنا، نزلت لكي تخرجنا من الظلمات الى النور، نزلت لكي نتعاون وتخرجنا من الفقر والتخلف والجهل حيث العلم والتقدم والإكتفاء. نزلت لكي نمارسها سلوكا وأخلاقا في واقع حياتنا، وليست زخارف وتحف نملأ بها جدران بيوتنا .. بيوتنا ملتقى لجلسات قد تغضب الله، سبحانه. قلوبنا وبيوتنا محتلة ومسكونة بغير الله، سبحانه وتعالى وبغير دينه ومنهاجه. ثمّ نتمنى على الله الأماني، نتمنى ان ينصرنا أن يتدخل لصالحنا..!! ليس الله، سبحانه، إرثا ولا تراثا يورثه الآباء للابناء، كما يورثونهم البيت والحقل والمتجر او القصيدة والحدث. الله نور ندخله الى قلوب أبنائنا ونساءنا واصحابنا، الله عاطفة وعقلا يشع أفكارا ويضخ فينا مشاعر وعواطف تجيش بالصدق والاخلاص .. الله ليس عادة ولا عرفا ولا تقاليد، الله، أيها المسلمون عليم قادر وحي لا يموت، الله، سبحانه، لا تأخذه سنة ولا نوم .. عندما نفتح قلوبنا ليضيئها نور الله، ونفتح بيوتنا امام تعاليم الاسلام ومفاهيمه وأخلاقياته .. عندها سوف تنتصر القلة المؤمنة سواء جاء المهدي وحضر، ام غاب ولم يحضر. عندها سينتصر المسلمون نزل عيسى – عليه السلام، او تاخر نزوله. فالله، سبحانه، هو الذي ينصر، الله الحي القادر الذي لا يموت. وليس الله الذي حولناه الى تراث وتقاليد.
وهكذا تكوّن في وعي الأمة ولاوعيها، بكل فئاتها وفصائلها وطوائفها من العلماني واللاديني وحتى المؤمن، منطق يقوم على عقلية متواكله كسولة ترتكز الى اسس غير واقعية وغير حقيقية، تخلط بين العقيدة وبين التراث والتاقاليد، وبين هذه وبين الاوهام والخرافات. ولكل مجال من هذه المجالات أدبياته وقواه الوهمية المتخيلة التي ينتجها ..
والعرب وكذلك المسلمون منذ ان توقفوا عن الاجتهاد ووضعوا مقاليد امورهم في ايدي الآباء والأجداد يفكرون لهم، وهكذا فقد قعد المسلمون خارج الحدث، وتركوا الآباء والأجداد ليعيشوا الحدث. فإذا ما فكر الماضي للحاضر، فلماذا إذا لا يحارب الماضي معارك الحاضر. ولما كان الماضي قد فات وانقضى، والأموات لا يرجعون لهذه الحياة علمنا كيف يحارب العرب معاركهم .. عرفناهم وقت الحروب والشدائد عندما يستغيث السوري وغير السوري ويصرخ: يا أحفاد أبي سليمان.!! يا أحفاد أبي عبيدة!!!، أين المثنى؟ أين سعد؟ ,اين ...؟ وأين ...؟ ماذا يفيد أبو سليمان وأبو عبيدة، والمثنى وسعد؟ إن كنتم على غير دينهم، وعلى غير عقيدتهم.!! تسخرون من دينهم وقت السلام والرخاء وتستنجدون بهم وقت الشدة ... أمة لا تعيش هموم حاضرها، إذا فرضت عليها الحروب والصراعات، استنصرت بالأعراف والتقاليد والتراث، كأن التراث وحكايات الماضي أصبحت طائرات وصواريخ .. أنظمة قمعية تقوم على تعبيد شعوبها للقادة والزعماء. أنظمة تبدأ حكمها بتفريغ وجدان الأمة من تراثها وتقاليدها وأعرافها لتسخرها جميعا في خدمة شخص الزعيم .. وهكذا تعيش الأمة في غموض وارتباك، غموض عندما تخلط قضية الايمان والعقيدة الحية التي ينبغي ان تحرك واقع الأمة، بالتراث والأعراف والعادات. ومرة أخرى عندما تخلط معاني الحضارة والتراث والثقافة، ودورها في صياغة وتشكيل نسيج العلاقات الاجتماعية، بقوى الاوهام والخرافة والاسطورة في المخيال الشعبي، الأمر الذي يؤدي الى ارتباكها وهي تضع حدود أجندتها بين الماضي والحاضر، بين الخيال والواقع. وهكذا تخطئ الأمة مرتين. مرة حين تضع حضارتها وتراثها وأعرافها وجها لوجه أمام آلة الحرب المحرقة، وكأن التراث صاحب قوة حية ذاتية يمكن ان يتحرك ويعمل خارج إطاره البشري. فالتراث والحضارة التي لا تعيش في كيان بشري حي فاعل ومتحرك وتبقى قابعة في بطون المعاجم والفهارس والمتاحف، لا تصدّ هجوما ولا تدحر عدوانا، بل لم تستطع ان تدفع عنها أيدي اللصوص والأوغاد وهم يسرقون متاحف ومكتبات بغداد العراق، بغداد العرب والمسلمين. وكان الأولى بالعرب ان يتحركوا في هذا السياق، من خلال تراثهم وأعرافهم بعثا لحضارتهم وصايغتها وتشكيلها من جديد. فيصارعون المعوقات من داخلهم وخارجهم بعمق وعيهم لتراثهم وتاريخهم، لا بغيابهم عن الواقع وأحداثه.
وأخطأوا مرة أخرى خطأ فادحا عندما خلطوا ولم يميزوا بين الله، سبحانه وتعالى بكونه الخالق البارئ والقادر والعليم، وبين التراث، تساوى فيها الله في وعي الأمة وهي تحوله الى تـُحف تزين به عالم أشيائهم كما يفعل المصري مثلا وهو يزين بيته بتراث الفراعنة. فإذا تحول الله، سبحانه وتعالى في عقل وقلوب الأمة الى تراث، وراح مشايخ الأمة وقادتها مضافا اليهم أزهرها، وحوزاتها العلمية وكل دور العلم والعبادة فيها يستغيثون ذاك الإله العرفي التراثي ان ينصرهم، وأن يخذل أعدائهم فليكثروا إذا من الدعاء والاستغاثة لعل الموتى يسمعون، ولعل التراث يحرك جيوشه وأساطيله. أما استراتيجيوا الأمة فيتحدثون عن ميزان القوى بينهم وبين أعدائهم على هذه الصورة: العرب (الضعفاء) + الله، سبحانه (والذي حوّلوه في واقع حياتهم الى تراث) في مقابل الولايات المتحدة، فسوف يتخيلون ان النصر حليفهم. ويتصورون بعقلية الأزمة المركبة والمعقدة التي يعيشونها ان "المهدي" وكذلك "المسيح" عليهما السلام سوف يحاربون نيابة عن الأمة. وعندما لا يحدث شيئا من هذا، تضع الأمة يدها على خدّها ويعيد الوهم إنتاج نفسه على شكل أماني مستقبلية سوف تحصد الأمة نصره في يوم من الأيام الآتية والتي لا ريب فيها ...
عندما يعيش الناس عالم الوهم يعيشونه وهم فاقدوا الارادة عاجزون متواكلين، وفرق بين المؤمن الضعيف الصابر وبين العاجز، في حالة الوهم والعجز ينتظر مسلسل آخر لعل "الآخر" الآخر الاوروبي او الآخر الماضي، او الغائب المنتظر يحارب لهم حربهم، ويعيش لهم حياتهم و ... و ... .

عبثيات الطرح القومي:
أما شق الأمة الآخر والذين في حقيقة واقعهم يصدرون عن ذات التفكير، ومن ذات المنطلقات، لكن بصيغ شكلية تحمل شعارات القومية والعلمانية. فلم يتعبوا ولم يملوا من ترديد السؤال نفسه، منذ توظيف "الثورة العربية الكبرى"، منذ "عربية الفتاة" و"المحافل الماسونية" المنتشرة من بيروت الى دمشق الى بغداد منذ منتصف القرن التاسع عشر، بل بتعبير أكثر صدقا واكثر واقعية، وأقرب الى الحقيقة منذ تأسيس ما يمكن ان نطلق عليه "الصهيونية العربية" من كل هذا الخليط الذي تم توظيفهم في جيش الحلفاء (بريطانيا وفرنسا) في حربهم ضد الدولة العثمانية في الحرب العالمية الاولى وقبلها، وحتى استسلام بغداد يوم 7.4.03، لم يفتأ أخواننا على الضفة الاخرى يسألون، وكذلك ما اصابهم الملل او الكلل من معاودة طرح السؤال ذاته: "هل سنتعلم الدرس هذه المرة؟ وكيف نتعامل مع الوضع الجديد؟ هذا إضافة الى الأسئلة المحبطة حول الأزمة والتخلف وغيرهما...؟ والحقيقة ان "نحن" السائلة والمتسائلة والمتخبطة، تشكل بحد ذاتها منطلقا فكريا للسؤال ومحورا لنقاش لا ينتهي ... من نحن؟ وكيف نقيم سوية".(5)
يا لتعاسة الفكر القومي العربي، بعد ما يقارب المئة وخمسون سنة، بعد ضياع لواء الاسكندرونة من سوريا، وعربستان من العراق، وضياع الدولة القومية العربية، التي حلم بها الصهيونيون العرب، وضياع فلسطين وتمزيق الدولة القطرية القومية .. واحتلال شبه الجزيرة العربية واستسلام بغداد ... جاء من يسأل: من نحن؟ وكيف نقيم سوية؟ جاء السؤال "البريء" هل سنتعلم الدرس هذه المرة؟ وكيف نتعامل مع الوضع الجديد؟. مجموعة الأسئلة هذه هي إرث المشروع القومي يتوارثونها خلفا عن سلف.
ثم رجعنا القهقرى لنجري مقارنة بين علاقة الانظمة العربية القومية من جهة وعلاقة منظومة الدول الاشتراكية بالنظرية الاشتراكية، ودور اليسار من جهة أخرى.؟ والمغالطات في ضرب مثل هذه الأسئلة والمقارنات قلما يفطن اليها القارئ العادي. فالأنظمة الاشتراكية تقوم على فكر ايديولوجي محدد. فالماركسية واللينينية ومن قبلها الميكانيكية المادية. هي جوهر هذا الفكر .. أليست الجدلية المادية والمادية التاريخية هما جناحا الماركسية؟ وهل ما زال العلمانيون العرب بعد هذه المرحلة التاريخية الشاقة من الهزائم المتكررة، وحالات الإحباط التي استقرت في وجدان الأمة، والتي جعلت من العروبة ودعوة القومية العربية توأمان لنفسية الاحباط، المتجددة عند كل قضية من قضايا العروبة؟ هل سيغرقون السوق العربية بسيل من التعديلات والمقارنات.؟
وهل سيخرج علينا العلمانيون العرب بعد كل هذا بمقولة "جدلية القومية العربية"؟ لكي نلهو بها مئة سنة أخرى. نحن المسلمين لسنا في حرب مع مفاهيم العلمانية الحقة، ولكننا على غير وفاق مع مفهوم العلمانيين العرب والاتراك لقضية العلمانية، فالعلمانية في المفهوم العربي التركي هي كل شيء ضد الاسلام، يترتب على ذلك أن المرء كلما كان لا إسلاميا أكثر أصبح علمانيا أفضل.!! هذا المفهوم العدائي للإسلام يطبق في أمة تمتد بشكل متواصل من شواطئ الأطلسي الشرقية وحتى باكستان، ومن باكستان بشكل متقطع حتى اندونيسيا على المحيط الهادي. هذه الأمة الممتدة على هذه المساحة الكبيرة من القارات، يشكل المسلمون في العديد من دولها نسبة تزيد عن 98% من مجموع السكان. والنسبة فيما يعرف بالعالم العربي هي 95% من السكان هم مسلمون. وعلى الرغم من ذلك، تريد لنا تلك الجيوب المناهضة للإسلام المبثوثة هنا وهناك في كيان الأمة، أن نخرج عن قيمنا، عن عقائدنا، ومفاهيمنا ومعانينا وتقوم بتفريغها من مضامينها، حتى تحتلها مفاهيم وهمية خيالية. وأكبر مثال على ذلك تلك المسلسلات "القومية" التي يبثها التلفزيون السوري، والتي تبعث في حياة الأمة مفاهيم فارس القبيلة الذي يمسك بقدر الامة. مسلسلات "قومية" بينما ليس فيها من القومية شيء. كما ليس فيها من وقائع وأحداث العروبة التاريخية شيء .. فهي لا تقف عند التزوير التاريخي المكشوف، ولكنها تبعث الاشمئزاز، لا سيما عندما تصور دور المرأة العربية فيها، إمرأة "القبيلة" العربية، في عهد السيوف والرماح، تخرج بهذا اللباس الفاضح الخليع .. هل هكذا كانت المرأة العربية في القبيلة العربية.؟ تظهر أكثر ميوعة وخلاعة من نساء هوليوود...!! ثم بعد ذلك يتحدثون عن النهضة، وعن أدب النهضة .. قبيلة بني شيبان في الجاهلية العربية، رفضت تسليم إمرأة عربية كانت مطلوبة لشاه شاه الفرس (ملك الملوك) وخاضت في سبيل ذلك معركة ذي قار الشهيرة لتحمي إمرأة استجارت بها. وفي هذه المعركة، غير المتكافئة، انتصف فيها العرب من الفرس .. بينما تعيد الدولة السورية الشجاعة تسليم امرأة عربية مع بناتها (زوجة صدام وبناته) عندما استجارت بهم هربا من الغزاة المحتلين وقامت بإرجاعهم الى العراق الى عراق أمريكا.

أخوة العرب القومية:
تتكرر باستمرار ظاهرة عداء قادة القومية العربية السياسية والثقافية لكل ما هو إسلامي في اوقات السلم والرخاء – إن كان هناك فعلا وقات كهذه عند العرب في تاريخهم الحديث – ولكن هذا هو الوقت الضائع الذي يقضيه العرب بين كل هزيمة والتي تليها. وبينما تعود الظاهرة المتكررة – كما بات يتكرر كل شيء في واقع العرب – لتروي لنا محاولات القوميين العرب اوقات الشدائد والمحن والحرب استنهاض الماضي وبعثه كالإستغاثة بخالد وسعد وابي عبيدة وغيرهم، وبالموروث التاريخي الحربي للأمة. وتنشط صرخات الله اكبر، وادبيات الجهاد وغير ذلك. يريد العلمانيون استنصار ضحاياهم بالأمس، عندما حاربوا العقيدة في نفوس شعوبهم وسخروا من التراث والاسلام، ولكن العرب يا أصحاب الطرح القومي، قد سبق ان قالت: "الجمل من جوفه يجتر" حماس الأمة واستنهاضها وقت الازمات والحروب ينبغي ان يعتمد الخطاب الثقافي اللاديني العلماني الذي يتمّ تلقين الأمة به بكرة واصيلا، إذ كيف ستغيثكم ثقافة "الجهالة" و"التخلف" والقوى "الغيبية" و"الظلامية"؟ كيف يحدث ذلك وقلب الامة كقلب الفرد فيها لا يحتمل لونين متناقضين من الثقافة في الوقت نفسه.؟ تماما كما انه لا يتسع القلب للفرح والحزن في اللحظة الواحدة نفسها. قد يصح ان تجيء امور الحزن والفرح متتابعة ومتلاحقة ولكنها لا يمكن ان تتزامن في وقت واحد. وهذا الوضع يصدق مع المنطق الصوري، كما قد يصدق مع المنطق التحويلي. فقد قال سبحانه في وصف هذه الحالة: "ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ..." (الاحزاب 4) ليس في جوف الانسان قلبان، واحد نملأه بالثقافة العلمانية اللادينية والثاني نحشيه بالثقافة الدينية. ولهذا قال الاسبان في أمثالهم: "من يخدم سيدين يكذب على أحدهما". ولا ينبغي ان نخلط هنا بين اعتماد واعتقاد ثقافة ما في حياة الفرد والأمة وبين معرفة الثقافات المتعددة. إتساع افق المعرفة شيء واعتماد ثقافة ما شيء آخر .. أيها الأخوة القوميين: تعرفوا على دينكم، وعلى أمجادكم وقت الرخاء، ينجدونكم وقت الشدة .. ليس معنى كلامنا هذا ان يخوض الأخوة العرب حروبا غير متكافئة مع اعدائهم، كما فعل ويفعل الأخوة في "الاسلام الجهادي" كما تسميه ثقافة المستعمر، إنما المطلوب هو توفير الارادة الخلقية الواعية لكي يتمكنوا من ادارة صراع معقول ومتوازن مع اعدائهم .. ولسنا كذلك ضد القومية العربية او المفهوم القومي العام للكلمة، ولكننا ننتقد فهم القوميين العرب لمصطلح القومية، وكذلك فهمهم لمصطلح العلمانية .. نحن نؤمن بقيام ووجود "أخوة قومية". أجل هناك أخوة بين العرب بصفتهم قوما، وبصفتهم أمة. أخوة القومية تجمع بين المسلم وبين المسيحي، لكنها أخوة المسلم الصادق بالمعنى الاسلامي للكلمة وكذلك المسيحي الصادق بالمعنى المسيحي للكلمة. المسيحي الذي يؤمن بقيمه الدينية كما وردت في انجيله ويمارسها وهو فخور بها. وكذلك هو حال المسلم الذي يؤمن بقيمه الاسلامية ويمارسها في واقع حياته دون ما خجل او مواربة .. أخوة القومية عامة لأنها تجمع بين أخوتين صادقتين اكثر خصوصية. أخوة الاسلام، وأخوة المسيحية، بهذه القيم الواضحة البينة يتحرك المشروع القومي، يتحرك بمعانيه ومضامينه وقيمه التي ذكرنا. وليس بخداعها والتلبيس عليها او الكيد لها. وعندما نقول هذا الكلام فإنما نقوله من وحي عقيدتنا من وحي القرآن الكريم الذي يقرر ان هناك أخوة بين القوم:
* "واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف" (الأحقاف 21).
* "والى عاد أخاهم هود، قال يا قومي أعبدوا الله" (الاعراف 65).
* "والى ثمود أخاهم صالحا، قال يا قومي اعبدوا الله" (الاعراف 73).
* "والى مدين أخاهم شعيبا ..." (الاعراف 84).
* "إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون" (الشعراء 106).
* "إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون" (الشعراء 161).
* "يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض او كانوا غزّى، لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا" (آل عمران 156).

آفة البعد الشخصاني في حياة الأمة:
يقول الدكتور عزمي بشارة: "إن ربط القضية القومية، بهذا النظام او ذاك، او بهذا الزعيم او ذاك، لا يشكل فقط خداعا للذات وكذبا على الذات والجماهير. بل يشكل ايضا جريمة بحق المشروع القومي العربي. إذا كان هدفه الحفاظ على نسيج قومي اجتماعي موحد، يُمكن من بناء مجتمعات ودول حديثة".(6)
هذا تصور صحيح في نصفه الأول، عند الكلام عن منزلة الزعيم ودور القائد "الخالد" و"الرمز" الذي يقوم بدور فارس القبيلة. وفي عملية بناء مؤسسات النظام الصورية والحزبية الشكلية، يملأها الزعيم جميعا، فهو روح الأمة الطاغية على كل التفاصيل ابتداء بالدولة وانتهاء بالأفراد، إذا كان الحديث عن المؤسسة فهو مديرها واذا تكلمنا عن الحزب فهو الذي يحنل ارادته وقراراته، والزعيم "الرمز" و"الملهم" هو الذي يملأ قرار البرلمان، ومن ثم فهو ايضا كلمة المعارضة العلنية وباختصار فالزعيم هو الذي يملأ جوانب الدولة، فلا مكان فيها لرأي غير رأيه او قرار فوق قراره .. ومركزية البعد الشخصاني في حياة العرب والمسلمين، كان لها أبعد الأثر في صياغة تاريخ الأمة سلبا وايجابا. وقد سبق لنا ان حذرنا من خطورة هذا التوجه وهذا الفهم، في قضايا بناء النظام السياسي والثقافي للأمة، فقد عانت منذ فجر تاريخها اسقاطات هذا المنهج حروبا وانقسامات، وتزييفا وتحويرا لقضاياها الفكرية والعقائدية، وزرعا لعواطف كاذبة في كيان الأمة ما زال يضغط في اتجاه عدم قدرتها على النهضة او في اتجاه وحدتها. وقد نبهنا لهذا الخطر وبينا كيف تسلل الى قلب الأمة وتفكيرها وتلبس على ارادتها، كتبنا عن هذه الآفة منذ ما يزيد عن ثمانية عشر عاما .. وظلت قدسية الزعيم هي التي تطغى على الممارسات السياسية في المستوى الديني كما هو الأمر في المستوى القومي، بحيث بات الزعيم والقائد والشيخ الواعظ يحتل الارادة العامة للأمة، وكذلك ارادة افرادها ومن ثم قراراتهم.
ولأننا نعيش بذواتنا وثقافتنا بعقلية التفرد في اتخاذ القرار، حتى ان مجموعة اي عمل سياسي، او ثقافي، اقتصادي، علمي، او رياضي لا تستطيع ان تعمل بنجاح وفي اتساق بين تركيباتها، بحيث تتقاسم الأدوار ويتمّ ترتيب المجموعات المشاركة في العمل الواحد. من اجل ذلك يخسر الفريق الرياضي في الأداء الجماعي، لأنه يتحرك بذاتية وانفرادية كأنه يعمل وحده وليس من خلال موقعه في فريق العمل. فترى الفريق الرياضي الاوروبي او تلك الفرق المؤهلة للنجاح تؤدي مباراتها كأعضاء في جسم واحد. لكل عضو دور ينبغي ان يقوم به. فتجد ان حركة كل عضو منسجمة مع حركة النظام العضوي العام .. بينما ترى حركة الفريق الرياضي العربي غير متجانسة وغير متوافقة ولا تشعر وأنت تشاهد أدائه أنك امام كيان عضوي منظم .. فكرة القدم قد بدأت في مصر منذ سنوات الثلاثين الاولى من القرن الماضي وكان أدائه في ذلك الوقت كأدائه اليوم، بل نسبيا كان أفضل. وهذا ينطبق على فريق العمل السياسي والعلمي والاقتصادي وغير ذلك. وكما اخطأ الكثير من الدعاة، في فهم الإسلام على انه قيمة نفسه، وليس وسيلة لتحقيق أغراض وأهداف اخرى، فقد جعلوا من الاسلام كأن غاية ما يقصد اليه هو إقامة كيان سياسي، حتى طغى العمل السياسي على العمل الدعوي، وبدل ان يتفرغ البعض للعمل السياسي، ممن لهم دراية في هذا المجال، تبرع المشايخ والدعاة لاغتصاب القرار السياسي، ومع غياب الخطاب السياسي الواضح وافتقادهم لأسس البرنامج السياسي فضلوا وأضلوا .. وهناك من رأى في الاسلام مشروعا اقتصاديا فحول كل ادبيات الزكاة والصدقات والتضحيات والإنفاق في سبيل الله، من قيمة معنوية دينية لتزكية النفس من البخل والحرص الى مبدأ اقتصادي يبدع في ابتكار اساليب ابتزاز الاموال من الجمهور بقصد السيطرة وتجميع القوة المالية واغداقها على الاتباع والمقربين، حتى نبتت طبقة عازلة من المنتفعين، تفتقر نفوسها لحرارة التعاليم الاسلامية وأبعادها الأخلاقية .. وتحولوا ليس فقط لطالبي دنيا، وانما للحرص عليها بامتلاك اكثر ما فيها من زينة وزخرف .. حتى أصبحت تلك التعابير الاخلاقية الراقية: التقوى، الزهد، الصدق، الاخلاص، الأمانة، وحب الخير والعدل والمراقبة تعابير فارغة من محتوياتها في سوق الحياة الاسلامية، يجترها بعض الدعاة في الدروس والمواعظ والمهرجانات، لتوفير دم جديد يحل مكان هؤلاء الذين اكتشفوا بضاعة السوق، وفضلوا ان يعيشوا كمسلمين خارج التأطرات المنهكة للمبادئ والقيم.
وكما أخطأ دعاة الدين التراثي، فقد اقترف العلمانيون أخطاء أفدح عندما ظنوا بأن التعابير والمصطلحات التي تفرغ من معانيها ومضامينها يمكن ان تشكل علاجا ناجعا لأمراض الأمة او رافعة لنهضة مجتمعاتها..!
أين حركة النسيج القومي؟ وأين مقوماته؟ هذا النسيج إذا لم يتشكل من خلال قيم المجتمع ومفاهيمه الحضارية، واخلاقياته، ماذا يبقى منها؟ هل نتمكن من بناء نسيج اجتماعي قومي من خلال مفاهيم طبقية متصارعة؟ قد يكون ذلك في ظل ديكتاتورية البروليتاريا؟ أما ان يكون ذلك من خلال فكر قومي ديمقراطي !!؟ إلا اذا أصبحت الطبقية تعني القومية ونحن لا ندري. وكذلك الحال مع الطائفية الماكرة؟ أو بأحقاد الجماعات العرقية المتربصة .. كما ان ربط النظام بالزعيم، والقومية العربية بهذا النظام او ذاك خداعا للذات والجماهير وجريمة بحق المشروع العربي القومي، كما يرى الدكتور بشارة. فإن مقارنة المشروع القومي بالأيديولوجية الماركسية من جهة، واستهلاك الخطاب القومي العربي لتعابير ومصطلحات مستوردة فارغة من القيم والمعايير التي تتفاعل من خلالها الذات الفردية والاجتماعية، هي أكثر خداعا وأشد تضليلا، وأعظم جريمة.
إن اختزال الانسان، على هذا النحو التعسفي وإخلائه من قواه المعنوية والروحية وكذلك القيمية والأخلاقية، وتكريس بعده المادي فقط. بحيث يتحول الفكر وما ينتجه من معنويات وأنماط فكرية وأدبية، عبارة عن مادة بلغت شأوا معقدا من التنظيم، كما هو في تفسير المادية الجدلية .. او كما ترى المادية الميكانيكية بأن الدماغ تفرز الفكر كما يفرز الكبد الصفراء..!
إن رؤية الأمور على هذا النحو، فيه من العبثية الفكرية ما يبعث على القلق لسنين طويلة قادمة. وكذلك فإن استمرار النقد الساخر واللامسؤول الهادم لمعاني الدين الاخلاقية، واستعمال تعابير قاسية في وصفها مثل: "القوى الغيبية" و"الظلامية" و"قوى التخلف" و"الاصولية الارهابية" الى غير ذلك، ما هي في حقيقتها، غير عملية تفريغ لوجدان الامة من قيمها ومثلها ..
لأن النفس البشرية إما ان تـُسكن بمعاني الفضيلة، ومفاهيم الحق والخير والعدل، والمعايير الأخلاقية النبيلة، وإما أن تحتلها ممارسات الشر والفساد والرذيلة والنفس التي لا تتحلى بالصدق، فليس لها خيار آخر غير ممارسة الكذب والدجل. والقلب العامر بالايمان المملوء بحب الفضيلة ومعاني الخير والحب والحق لا يصدر عنه غير انفعالات الخير والحب. وعكس ذلك فإن القلب المشحون بالباطل والظلم والإثم والفساد، لا ينتج عنه غير الشر .. وكذلك لا أدري فكرا صادقا او كاذبا، حقا او باطلا، يحق له ان يسخر من مبدأ الغيب، في الوقت الذي يكتنف الغيب كل حياته، يحيط به من بين يديه ومن خلفه، من فوقه ومن أسفل منه، يكتنف ماضيه وحاضره ومستقبله، ولا تفلت منه لحظة واحدة، كيف لإنسان ان يسخر من الغيب.؟ الأمر الذي يجعل السذج من انصاف المثقفين من العرب وغير العرب، يظنون ان مجرد شتيمتهم و سخريتهم من مبدأ الغيب، يمنحهم درجة علمية، بل حصانة علمية..!!
بالأمس كذبت علينا الصهيونية العربية، وخدعتنا وهي تـُمنينا بلإقامة الدولة القومية العربية، القائمة على اسس العدل ومحاربة الظلم والفساد، النظام القائم على اختيار الشعب له، الدولة التي تشتغل بهموم الناس وقضاياهم. الدولة التي تحقق ارادة مواطنيها، وتجتث الظلم والاستبداد الذي كان يمارسه الاتراك على العرب وغيرهم من الشعوب. وصدق العرب آنذاك إدعاءات الصهيونية العربية وحلفاؤها من الاستعمار البريطاني الفرنسي، وحاربوا بجموعهم الدولة العثمانية، الأمر الذي ترك مرارة في قلوب الاتراك حتى اليوم، وإذ بالصهيونية العربية تسلم العرب كل العرب وتضعهم تحت وصاية المستعمر، بحيث اقتسمت بريطانيا وفرنسا هذا المشرق العربي. واقتطعت من جسمه فلسطين ومنحته وطنا قوميا لليهود. وتوافق الصهيونية العربية على اقتطاع لواء الاسكندرونة من الجسم السوري لكي تقدمة منحة للأتراك وقسما من العراق لتعطيه لايران. وتوافق الصهيونية العربية على استعمار فرنسا لسوريا ولبنان وتقسيمها وكذلك تقر بريطانيا على كل من العراق والاردن وفلسطين وشبه الجزيرة العربية ... ومن اغرب المفارقات ان هذه الصهيونية العربية ما زالت تتحكم بالعديد من بلاد العرب بأسماء وأنظمة عربية واسلامية، حتى يومنا هذا، على مستوى الدولة، كما هو على مستوى المعارضة. وأصبح حال الانسان العربي والمسلم كحال من يمشي في سوق ليس فيه بضاعة عربية ولا اسلامية صادقة واصيلة، وأي بضاعة يمكن ان يختارها او يشتريها، فهي بالتالي لن تكون عربية ولا اسلامية. إلا من حيث الشكل والصورة المضللة الخادعة. الأمر الذي يضعنا وجها لوجه امام ما يحدث الآن تحت سمع وبصر ما يدعى بالعالم العربي والاسلامي من احتلال الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا للعراق وسيطرتها على المشرق العربي برمته ..
وسوف اورد نصا لمقال كتبه الاستاذ جوني منصور، لم يذكر المصدر الذي استقاه منه يقول فيه:(7) "ولما عرف العرب في سوريا على وجه التحديد بالتصريح السابق (اتفاقية سايس-بيكو وتصريح بلفور) قامت مجموعة من سبعة من المثقفين السوريين بإصدار تصريح عام 1918 طالبوا فيه الحكومة البريطانية بتوضيح سياستها المتعلقة بمستقبل البلدان العربية. فلم تتأخر الحكومة البريطانية عن اصدار تصريح موجه الى السبعة اعلنت من خلاله حرصها على تحرير البلدان العربية من الحكم التركي، وتحقيق حريتها واستقلالها التامين، وإطمأن العرب الى التصريح البريطاني خاصة وقد تزامن مع الاعلان عن النقاط "الاربع عشر" للرئيس الامريكي ويدرو ويلسون، وأهم هذه النقاط، هو مبدأ حق تقرير المصير للشعوب، ومما زاد من طمأنة العرب تجاه بريطانيا صدور تصريح بريطاني فرنسي مشترك في اواخر عام 1918 تمّ توجيهه الى العرب عموما، ونورد هنا جزءا كبيرا منه (لأهميته في مقارنة التصريحات التي اطلقها ويطلقها الرئيس بوش ووزير حربه رامسفيلد والحاكم المدني الامريكي للعراق جي غارنر) وهذا هو نص التصريح: "إن السبب الذي حاربت من اجله كل من فرنسا وبريطانيا العظمى في الشرق تلك الحرب التي اثارتها مطامع الألمان، هو لتحرير الشعوب التي رزحت أجبالا طويلة تحت ظلم الاتراك تحريرا تاما نهائيا. وإقامت حكومات وإدارات وطنية تستمد سلطتها من اختيار الأهالي الوطنيين لها اختيارا حرا. ولتحقيق هذه الاعراض اتفقت فرنسا وبريطانيا العظمى على تشجيع اقامة الحكومات والادارات الوطنية ومساعدتها في سوريا والعراق، اللتين حررهما الحلفاء، وفي الاراضي التي تعملان على تحريرها وستعترفان بها بمجرد حصول ذلك. ولا رغبة لهما في أن تفرضا على اهالي البلاد، اي نظام معين، وإنما يريدان بتأييدهما وبالمساعدة الكافية ان تكفلا حسن سير الحكومات والادارات الوطنية التي يختارها الأهالي اختيارا حرا. والسياسة التي تريدها الحكومتان المتحالفتان في البلاد الحرة، هي ضمان المساواة والعدل النزيه للجميع. وتسير التقدم الاقتصادي للبلاد بتشجيع النشاط المحلي، ونشر التعليم، والقضاء على الخلافات والمنازعات التي طالما انتفعت بها وساتخدمتها السياسة التركية.!!
بخ ٍ، بخ ٍ وبعد هذه التطمينات والعهود والتصريحات الاستعمارية الموجهة للصهيونية العربية، نجحت الدبلوماسية البريطانية في عقد لقاء بين فيصل ابن الشريف حسين مع وايزمن الزعيم الصهيوني المعروف في العقبة. وتمّ في هذا اللقاء تكريس وعد بلفور والتنازل عن فلسطين كوطن قومي لليهود في مطلع عام 1919، الأمر الذي سهّل على فيصل حضور مؤتمر السلام الذي عقد في باريس. وبعد ان حصلت فرنسا على لبنان وسورية، تنصلت بريطانيا من وعودها التي اقتطعتها لفيصل ولغيره من زعماؤ الصهيونية العربية بحجة ان ليس لها سيطرة على لبنان وسوريا، واقترحت على فيصل ان يجتمع بكليمانصو رئيس وزراء فرنسا آنذاك، حيث اعترف فيصل بوصاية فرنسا على كل من سوريا ولبنان، كما وافق على فصل لبنان عن سورية. ويستمر سيناريو الصهيونية العربية بإنتاج نفسه مرة بعد مرة من غير ملل منه، حتى يئس العرب من مشروع النهضة العربية ومن مبدأ توحيد العرب، وأصبح يثير شفقتهم بل سخريتهم وتندرهم. وكما يظهر فإن المطلوب هو تيئيس العرب من مشروعهم القومي وكذلك في الوقت نفسه تيئيس المسلمين من مشروع نهضتهم الاسلامية..! عن طريق مسلسلات الصهيونية العربية بدائرتيها – العربية والاسلامية – فإن أخطر أدوار الصهيونية العربية بكمن في نشاط دائرتها الاسلامية.


الصهيونية العربية وحكاية "إبريق الزيت":
بربك ايها العربي، إن أبقوا لك ربًا تعبده، أليس هذا السيناريو الذي مر علينا في الصفحات السابقة هو نفسه السيناريو الذي يتردد على اسماعنا هذه الايام .. تماما كحكاية "ابريق الزيت" التي كانت تحكيه لنا جدتي وجدتك، حين كنا أطفالا نلحُّ عليها لتحكي لنا حكاية، فكانت جدتي تلعب بخيالنا نحن الأطفال الصغار، كما لعب وما زال يلعب الاستعمار بعقول العرب اليوم والامس وقبل الامس .. كانت جدتي تقابل إصرارنا وإلحاحنا، بأن تعمد لحكاية "ابريق الزيت" حيث تبدأ: "أحكيلك ما أحكيلك، أحكيلك إبريق الزيت؟ فنجيب بلهفة، نعن نعم، فتعيد جدتي: "أقصقصها وأدوّرها وأحكيها من أولها؟ فنجيب نعم، فتعيد جدتي القول مرة بعد مرة: أحكيلك ما احكيلك، احكيلك إبريق الزيت، أقصقصها وأدورها وأحكيها من اولها". وهكذا تستمر جدتي حتى يداعب جفوننا النعاس فننام، او نملّ الحكاية فنسكت عن الطلب. والفرق في الحالتين اننا نحن الاطفال آنذاك كنـّا نملّ او ننام، بينما الصهيونية العربية ومن وراءها الشعوب العربية قد رُوّضت بحيث أمست لا تملّ من ترديد حكاية "ابريق الزيت" التي يقصها الاستعمار باستمرار مكان جدتي .. فلو قمنا بتبديل بعض المصطلحات والتسميات التي يسمعنا اياها الاستعمار الغربي اليوم وقارناها بتلك التي اوردناها قبل قليل لحصلنا على مفتاح لقاموس هذه المصطلحات:
1- العدوان الامريكي البريطاني على العرب اليوم = العدوان البريطاني الفرنسي في الحرب العالمية الاولى.
2- التحالف (الولايات المتحدة وبريطانيا القرن الواحد والعشرين) = الحلفاء (بريطانيا فرنسا في الحرب الاولى).
3- تحرير العرب من ظلم واستبداد الاتراك = تحرير الشعوب العربية من حكامها العرب المستبدين (الانظمة التي اقامها الاستعمار نفسه) (يحرر العرب ويعطى لواء الاسكندرونة وعربستان لكل من ايران وتركيا).
4- قيام نظام ديمقراطي يرعى حقوق الانسان = اقامة حكومات وإدارات وطنية يختارها الاهالي.
5- بوش – بلير – رامسفيلد = كليمانصو – تشرتشل – بلفور
6- حقوق الانسان (حق التدخل في الشؤون الداخلية للدول) = حق تقرير المصير (استعمار الشعوب التي كانت مستعمرة).
7- القضية الكردية = القضية اليهودية.
8- العمل علاى اقامة الدولة اليهودية = العمل على هيمنة الدولة اليهودية.
9- العمل على تفتيت الدولة العربية الى دول قطرية قومية = العمل على تفتيت الدولة القطرية وإقامة اقطاعيات محلية.
10- اختزال العالم العربي والاسلامي الى طوائف مختلفة ومجموعات عرقية متناحرة = تعميق وتكريس هذه الحالات وتنصيب بعضها في مقاتلة البعض الآخر عن طريق تصنيف جماعات ارهابية متطرفة واخرى معتدلة.

وهذا الذي حدث ويحدث للمنطقة العربية خاصة والاسلامية بشكل عام، على مدى ما يقارب المئة والخمسين عاما، يبرهن على ان هناك تخطيطا مبرمجا بشكل دقيق لإبقاء هذه المنطقة تحت سيطرة الاستعمار الغربي ومنطقة نفوذه. وكذلك تفريغها من اسباب القوة المادية والمعنوية واعتمد في تخطيطه اساليب كثيرة:
1- تأسيس ما اطلقنا عليه "الصهيونية العربية" وهي قيادات مصنعة في جميع المجالات منها: السياسية والفكرية والاجتماعية والدينية. وهذه القيادات تنتشر في الغالبية العظمى لدول المنطقة .. هذه القيادات متلبّسة على ادوارها المحسوبة والمعدّة لها سلفا، كانها عربية وكأنها إسلامية وهي تعمل على تضليل العرب وترويضهم بأشكال مختلفة. ومن أجل خلعهم عن معنقداتهم واخراجهم عن تراثهم، وبالتالي تيئيسهم من إمكانية تحقيق اهدافهم .. كالوحدة العربية او الاسلامية. وعملت هذه الصهيونية على تفكيك الشرق الأوسط وإضعاف نسيجه القومي والاسلامي الفكري والثقافي والسياسي والديني. وأفرغته من أسباب قوته، عن طريق زرع بذور الشك والريبة بين شعوبه وطوائفه، بتقسيمهم على مستوى ديني وعرقي، لقد جعلت من هذا الشرق جماعات متفرقة نحلا ومللا يكيد بعضها لبعض، ويتربص هذا الطرف بذاك في داخل الدولة القطرية القومية .. كما سبق ان زرعت بذور الشك وعدم الثقة بين الاتراك من جانب وبين كل من العرب والايرانيين والاكراد من جانب آخر. وبين هذه الأعراق بعضها مع بعض. الأمر الذي منع قيام قوة إقليمية من مجموعة دول المنطقة، لكي تحمي مصالح المنطقة، وتقرير سياستها، وتحرير ارادتها السياسية والدينية. وكما تمّ تيئيس العرب من امكانية قيام الوحدة العربية، والدولة القومية العربية اعتمادا على ممارسات الصهيونية العربية بساستها ومثقفيها، فإن العمل اليوم يستهدف تيئيس الشعب الفلسطيني من قضيته، وكذلك تيئيس المسلمين من إمكانية تحقيق المشروع الاسلامي.
2- وضع المنطقة العربية، تحت المراقبة الدائمة من قبل الاستعمار الغربي والعمل على إجهاض كل محاولة جادة لتخطي عتبة التخلف، وقيام صناعة متقدمة كما حصل للعراق، بحجة عدم السماح له بإمتلاك أسلحة الدمار الشامل ..
3- العمل على تكريس الانقسامات الطائفية والعرقية والثقافية في داخل المجتمع العربي. وكذلك إذكاء روح العداوة بين دوله بإثارة الخلافات الحدودية التي رسمها الاستعمار ذاته.
4- وكانت أبرز نجاحات الصهيونية العربية من نصيب الدائرة الاسلامية في هذه المؤسسة الصهيونية، حيث تمكنت من نشر جماعات عديدة ممن تلبسوا على المسلمين. وليسوا منهم، باتخاذهم التطرف والتعصب منهجا، مما أضرّ بصورة الاسلام العالمية .. فقد استطاعت هذه الكيانات المزروعة في جسم الأمة، خاصة بعض هؤلاء الذين يعيشون تحت كنف الاستعمار، يغدق عليهم الأموال ليتمّ توظيفهم متى شاء وكيفما شاء. لقد نجحت تلك الجماعات المزروعة من تصوير الاسلام للمسلمين ولغير المسلمين على انه دين عنف وإرهاب .. بينما هو في حقيقته اكثر دين في الارض بما في ذلك الانظمة الوضعية – يؤمن بالتسامح والمصالحة والتعددية الثقافية والدينية. ويؤمن بحق الاختيار لكل بني البشر، ويحرّم الإكراه والاستبداد بكل صوره ويرعى رعاية منقطعة النظير من يخالفه ويختلف معه .. وعلى الرغم من عظمة هذا الدين الانساني في قيمه ومبادئه، فقد استطاعت الدائرة الاسلامية في الصهيونية العربية ان تحاصر اكثر من مليارد واربعمائة مليون مسلم في طول العالم وعرضه، بجعلهم إرهابيين وقتلة يحاصرهم العالم بنظرات الشك والريبة، ويضعهم تحت الرقابة الصارمة.
بعد تشخيص أمراض الأمة .. تلك الأمراض التي سهلت على عدوها امر توظيفها وتجنيدها ضد مصالحها. فقد ظهر لنا عدة عوامل ساعدت على بقاء العرب والمسلمين ضمن دائرة الفقر والحاجة والعوز في العالم من بينها:
1- ضعف الارادة الخلقية الواعية، وضعف ارادة الامة بشكل عام. وهذا بدوره ساعد على اضعاف شهية الارادة عند الانسان، بصفتها حركة منفعلة بالظرف والوسط والبيئة.
2- إقفال باب الاجتهاد والانتاج الفكري والفلسفي والفقهي. بمعنى آخر وضع حاضر الأمة، تفكيرا، وثقافة بيد الماضي، وغياب العقل المنفعل بالأحداث والوقائع .. الأمر الذي أدى الى إنشغاله بهموم الماضي وقضاياه، أكثر من اهتمامه بهموم الواقع ويعيش قضايا التاريخ وأحداثه اكثر من قضايا الانسان المعاصرة والحاضرة .. ولهذا راح ينتج أنماطا من الاحداث التاريخية يستنسخها، ويبعثها على شكل أطر وهيئات ومؤسسات يستفرغ فيها طاقة الأمة على قلتها وندرتها. كما يفعل بعض المسلمين في إحياء أحداثا تاريخيا وبعثها حية في واقعهم كمناسبة عاشوراء وكربلاء.
3- هذا أدى الى غياب روح المبادرة، وكذلك روح المخاطرة والمغامرة المحسوبة والمدروسة والمسؤولة، في مجال الفكر الفلسفي والعلمي والفقهي الديني، كما هو على المستوى العلمي. وجعل الامة لا تركن لبلادة الذهن فقط، بل تستلذ ّ وتستطيب استنساخ الماضي وتقليده، او تقليد الآخر، من غير ان تتمكن من استيعاب ثقافة الماضي ومعارفه في صورتها الراقية ولا هي أحاطت بعلوم الآخر وثقافته فهما واستيعابا حتى تستطيع ان تنتج نماذجها الخاصة.
4- فقدان هذه الامور حرم الأمة من الانتاج والابداع، وجعل منها قوة استهلاكية في المجال الفكري والفقهي، بحيث تستهلك مما أنتجه الماضي على الصعيد الفكري والديني. وكذلك الحال في المجال العلمي والصناعي فهي تعيش على ما ينتجه الآخر .. وأخطر ما في الأمر انها كأمة ذات رسالة عالمية لم تستطع تنزيل الاسلام العظيم، كمنهج متفوق على واقعها وواقع الانسانية الموضوعي. بل راحت تستنسخ منه جانبه الخرافي الاسطوري، وقصّرت عن استيعاب ما وصل اليه علماء الأمة وفلاسفتها، حتى أصبح فقهاؤها وعلماؤها على نسخ متعددة. كل نسخة بقدر ما يفهم منه عند العامة وعند جمهور العلماء المقلدين. فأصبح مثلا أبو حامد الغزالي، نسخا متعددة منها الدرويش، ومنها الصوفي، ومنها الفيلسوف. وكذلك الحال مع ابن تيمية وغيره من العلماء والفقهاء .. ابن تيمية الذي يكتب في تعريف العقل وآلياته ويكتب في مواضيع المنطق، وينقض المنطق الصوري لأرسطو، فيبدع في هذا الحقل، لا يعرف جمهور العلماء، ولا نقل جمهور الناس عنه أكثر من جملة ينسبونها اليه وهي قوله: "من تمنطق فقد تزندق" بينما الحقيقة فإن ذلك من قول ابن الصلاح ولس ابن تيمية ..
كل هذه الامور مجتمعة ومتفرقة، سهلت عملية توظيف الأمة، من قبل اعدائها في برامجها وتخطيطاتها، وضد مصالح الأمة ذاتها، سواء بدراية منها او باستغفالها ...!


المهدية والمسيحانية كفكرة عامة:
كل حركة، جماعة او فئة يهويدة، مسيحية مسلمة او غيرها من بني البشر تنتظر حدوث هذه المعجزات، من أجل تغيير واقع البشرية التي تعاني من الظلم واليغى والفساد .. وكل فئة من هذه الفئات تظن ان المسيح، عليه السلام، سيكون واحدا من اتباعها. وكأن رسالته، عليه السلام، تتمحور في تكريس هذا الفهم او ذاك، وتثبيت هذه الجماعة او تلك. هكذا يعتقد كل هذا الخليط من الناس .. رسول ونبي يبعثه الله، سبحانه، لا لشيء إلا لكي يقرّ فقها محددا لهذه الجماعة او تلك، نبي يجيء ليخدم هذا التوجه او ذاك. وسوف نورد فيما يلي بعض اقوال العلماء في قضية المهدي وعيسى عليه السلام.
1- يقول الدكتور موسى الموسوي في كتابه القيم والذي يناقش فيه الكثير من انحرافات الشيعة وتصحيح عقائدهم .. ولو قيّض الله لهذه الأمة عددا من مثل هذا العلامة لأمكن خلق مناخ صالح لنمو الاسلام كدين حق بين جميع فئات المسلمين: يقول: "وفكرة المهدي وظهور قائد في آخر الزمان يملأ الأرض قسطا وعدلا بعدما ملئت جورا موجودة في كثير من الأديان".(8)
1:1 ويقول في معرض تقييمه للحديث: "وليت شعري ان أفهم أيهما أفضل للقبول والاتباع علم الدراية والرجال ام كتاب الله الكريم وسنة رسوله وبعدهما العقل والمنطق والبرهان. رسول الله يقول: "كل ما وافق الكتاب فخذوه وما عارضه فانبذوه" هذا الحديث الذي أجمعت رواة الحديث من السنة والشيعة على صحته".(9) ويروي الدكتور الموسوي عن الامام الصادق قوله "كل شيء مردود الى الكتاب والسنة، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف".(10)
2- يقول الدكتور علي احمد السالوس وهو ينتقد عقيدة الامامية عند الشيعة الاثني عشرية: "وأحاديث المهدي لم يرد منها شيء في الصحيحين (البخاري ومسلم) ولكنها جاءت في المسند وبعض كتب السنة".(11)
3- يذكر المختصر في علامات المهدي المنتظر: "لا مهدي إلا عيسى ابن مريم".(12)
1:3 وما جاء عن الصحابة في امر المهدي الرواية الثامنة والثلاثون: "ترعى في زمانه الشاه والذئب في مكان واحد، ويلعب الصبيان بالحيات والعقارب".(13)
4- والشيعة تنكر نزول عيسى عليه السلام وظهور الدجال وخروج السفياني.(14)
5- يرى الشيخ محمود شلتوت في كتابه الفتاوي: "أنه ليس في القرآن الكريم ولا السنة المطهرة مستند يصلح لتكوين عقيدة يطمئن اليها القلب بان عيسى رفع بجسمه الى السماء وأنه حي الى الآن فيها، وأنه سينزل منها آخر الزمان الى الارض .. وعيسى بن مريم، عليه السلام قد توفي كما ذكر ذلك القرآن في عدة مواضع .. وإن من أنكر ان عيسى قد رفع بجسده الى السماء، وأنه فيها حي الى الآن وأنه سينزل آخر الزمان، فإنه لا يكون بذلك منكرا لما ثبت بدليل قطعي فلا يخرج عن إسلامه وايمانه، ولا ينبغي ان يحكم عليه بالردة، بل هو مسلم مؤمن بكل المقاييس".(15)
وأما الدكتور علي زيعور فيشرح فكرة المهدية بقوله: "المهدي في الاسلام ليس "أخذا" او "استعارة" عن اليهودية .. وهي ليست فكرة مسيحية .. ذاك أن المهدي فكرة موجودة حتى عند قبائل او أمم لا تعرف الأديان الكبرى. والظاهرة (المهدية) هي حادث اجتماعي يخضع لمناهج الدراسة السوسيولوجية..".(16)
1:6 "تؤخذ المهدية على انها موقف، وهي فلسفة، بمعنى النظرة الشمولية للإنسان في واقعه القاسي، وفي مساعيه لتخطي القساوة متسلحا بفكرة عليا عن القيم المنظمة للمجتمع والفرد .. المهدية فكرة مثالية داخل النفس تسعى لأن تتجسد في بناء الفرد اللا منجرح داخل مجتمع يخلو من الجور ومفعم بالعدل والمساواة والحرية والكرامة .. المهدية إهتمام بالإنسان الواقعي.(17)
7- فكرة المهدية انتشرت قديما في عدد من العقائد في آسيا وخاصة ما كان من الزرادشتية التي انتشرت في بلاد فارس، حيث كانت تؤمن: "أن العدل والحق والخير والسلام سينتصر في آخر الزمان وسوف تقوم حكومة الحق والعدل Millanium على يد مخلص ومنقذ للبشرية" ودخلت الفكرة للعقائد اليهودية عن طريق يهود بابل ومنها الى المسيحية فالإسلام. خاصة عند الشيعة حيث موطنها بلاد فارس فتسللت هذه العقائد حتى أصبحت في نظر الشيعة عقيدة يكفر من لا يؤمن بها.".(18)

ظاهرة المهدية والمسيحانية وأدبياتها:
يظن اليهود ان المسيح سوف يأتي في الأساس ليبني لهم دولتهم ويقيم هيكلهم الذي سينزل به وبالقدس من السماء، وكذلك ليعزّهم ويرفع عنهم الظلم .. وكأن اليهود اليوم ليس لهم دولة ترعاهم، وليس لهم نفوذ في الأرض؟ واليهود الذين كفروا بالمسيح، عليه السلام، عندما بعثه الله اليهم اول مرة، يظنون ان الله يبعث نبيا ومخلصا ليؤكد على صحة عقائد الناس ودينهم .. كأن المسيح، عليه السلام سيحضر لترسم له اليهودية حدود رسالته كما ترسم لبوش حدو سياسته..! وكذلك المسيحيون لا يختلفون عن ذلك .. والفرق الاسلامية على كثرتها وتنوعها، كذلك فإنها تظن ان ليس للمسيح وظيفة غير ان يضع خاتمه ويوقع تصديقا على طروحاتها وبرامجها .. كل حزب وكل جماعة تعتقد ان المسيح، عليه السلام سيأتي لينضم الى جماعتها ويقرّ خطابها وعقيدتها، ويزيد من سوادها ..! أما إذا حدث وجاء المسيح، عليه السلام، ولم يكن على منهج الاخوان، او السفليين او الوهابيين او الهجرة والتكفير، او لم يكن شافعيا او شيعيا فسوف يحاربه هؤلاء جميعا، كما سوف يحاربه غيرهم من المسيحيين واليهود. إن الله لا يبعث رسولا بغير رسالة ايها الناس .. وكذلك فإن الله سبحانه لا يبعث رسولا ودين الناس وعقائدهم صحيحة .. رسالة الرسول ان يقوّم ما اعوجّ من عقائد الناس وسلوكهم. وكما ان المسيح، عليه السلام، ليس صهيونيا سيفد وهو يحمل الهيكل، فهو كذلك ليس بروتستنتيا ولا كاثوليكيا. وكذلك فهو ليس سنيا او شيعيا بالنسخ الموجودة اليوم إذا كان للمسيح ان يأتي فلأن هناك حاجة تستدعي مجيئه .. حاجة دينية واخلاقية في الدرجة الاولى. إذا كان في تقدير الله، أن ينزل المسيح عليه السلام، فسوف يثير دهشتكم جميعا .. سوف تقاتلونه جميعا، لأن هذه هي سنة الله. قدوم المسيح بالنسبة للمسلمين مثلا، يعني أول ما يعنيه، أننا لا نقيم كتاب الله في واقع حياتنا، معناه أن "المسلمين" على غير منهج الله، وأن كتاب الله قد حصل فيه ما يستوجب مجيء نبي من عند الله، حتى يردنا الى تعاليمه وقيمه واحكامه .. لا يجيء المسيح بما هو مألوف للناس .. ولهذا فلا تتمنوا سرعة مجيئه، فسوف يحاربكم وتحاربونه مثل ما قد يحاربه غيركم، فالمسيح، عليه السلام، ليس آلة حربية تضعها السماء بيد هذه الفئة او تلك ... عندما بعث الله المسيح أول مرة كان اليهود قد انحرفوا عن تعاليم الله، وهجروا أحكام التوراة. فجاء عيسى، عليه السلام، ليرد خراف بني اسرائيل الضالة، لكن اليهود قد كفروا ببعثته الاولى، لهذا فلن يجيء المسيح ليقرّ ما عليه اليهود في بعثته الثانية. وكذلك ليس اليهود اليوم على ضعف وعجز فينصرهم. وكذلك الأمر بما يتعلق بالنصارى، فلو كانت عقائد النصارى اليوم هي ما جاء بها عيسى أول مرة، فليس لهم به حاجة مرة أخرى .. وليسوا كذلك أمة مظلومة فتحتاج الى نصرته. وهم أصحاب القوة والجبروت اليوم. وأما فيما يتعلق بالمسلمين، فالأمر جد مختلف، فهم من بين أكثر الأمم ضعفا وفقرا وذلا .. وبقدر ما هم ضعفاء فهم ايضا منحرفون عن منهج الله. وبما هم كذلك، فلن يكون المسيح، عليه السلام آلة حرب تضعها السماء بين أيديهم .. وإنما سوف تكون مهمته في الأساس تقويم وتصحيح ما اعوجّ من عقائد المسلمين وعقائد غيرهم من الناس. ولهذا فسوف يحاربه المسلمون فور مجيئه، لأنه كما جاء اول مرة ليقوّم انحراف بني اسرائيل، جاء مصدقا لما بين يديه من التوراة فحاربه اليهود وأنكروه .. ونزوله الآخر سوف يكون تصديقا لما بين يديه من القرآن العظيم، وانحراف المسلمين عن تعاليم كتاب الله يجعل من واجباته ومهام رسالته الاساسية هدايتهم وهداية غيرهم. وللسبب نفسه سوف يحاربه المسلمون لان فهمهم المريض لكتاب الله تعالى وتعاليمه سوف يضعه وجها لوجه امام تعنتهم ومحاربة سدنة الدين وكهنوته .. من اجل ذلك لا تتمنوا ايها الشيوخ مجيء المسيح، عليه السلام، لأن أول عمل له سيكون تبكيتكم، ونزع سلطة المعرفة والعلم التي تحتكرونها .. سيقول كلمة فصل في هذا التراث الفقهي الهائل الذي حولناه من تراث معرفي تراكمي يمكن ان يتحول الى دوافع وروافع تنهض به الأمة، فإذا به ينتصب عائقا على خط سير تقدمها .. سيقول بعض القاعدين الكسالى ما باله وكأنه يضع خطة عمل للسيد المسيح، عليه السلام. لا أيها السادة، بل هي قراءة لعمل الرسل جميعا، عليهم السلام، والمسيح في بعثته الثانية، كما هو في الاولى لن يشد عن دور الرسل ومهماتهم. هذا ما حدث للرسل من قبل وهذا ما سيحدث مع عيسى، عليه السلام، إذا قدّر الله مجيئه.
سيأتي المسيح ليجمع هذه الجماعات والحركات، هذه الشراذم والشظايا التي تعتبر كل واحد منها أنها هي مجموع الأمة تفكر عنها وتقرر بالنيابة عنها، سيأتي ليضع لكم وللإنسانية منهجا واضحا وواحدا، فتصبحون أمة واحة سيبكتكم عندما ينظر بنور الله الى ما في ضمائركم وخبث قلوبكم.
رامسفيلد وزيرلدفاع الولايات المتحدة يخطب في حلف الاطلسي فيقول" نحن عائلة واحدة الاوروبيين والامريكيين عائلة واحدة، الخلافات بينها كالخلافات داخل العائلة الواحدة .. وأنتم أيها الشراذم والشظايا أمة واحدة جعلتم منها هذه الألوف من الشظايا والشراذم ....


الحرب على افغانستان والدور اليهودي:
اختلف الناس في فهمهم للدور اليهودي في صياغة سياسة العالم وترتيب اوراقه ومدى تأثيرهم على مجربات اموره الى موقفين من منطلقين مختلفين:
1- من الناس من كان ينكر أن لليهودية دور بارز في رسم السياسة الدولية والاقتصاد العالمي، وكذلك تشكيل الفضاء الفكري للعالم وصياغة الأسس الفلسفية الوسيطة والحديثة. ومن بينهم العرب والمسلمين قبل عام 1948 حين قامت الدولة اليهودية، وهزمت الجيوش العربية مجتمعة .. وظلت بعض قطاعات الأمة تبالغ في تقديرها للضعف اليهودي حتى هزيمة عام 1967 وكانت ترى ان اسباب هزيمة العرب هي خيانة بعض المسؤولين العرب، ولكن بعد عام 1967 أصبح العرب يعانون من هاجس اسرائيلي .. هاتين الحربين وضعتا العرب دفعة واحدة أمام تحديات كثيرة من أهمها:
1:1 التخلف العلمي والفكري والصناعي الذي يضغط على الواقع العربي فيثقل حركته.
2:1 غياب المرتكزات الأساسية للدولة الحديثة.
3:1 وجود ثقافتين مختلفتين في ظاهرهما ومتصارعتين في واقعهما:
4:1 ثقافة علمانية (سواء كانت رأسمالية غربية او اشتراكية) في قشرتها الخارجية وقد طفت على سطح الشخصية العربية تمسها عند حافتها كالطلاء الخارجي، الذي لا يلبث ان يزول بسرعة عند تعرضه لأدنى أنواع الاحتكاك مع الواقع عند تفاعلها الذي لا بدّ منه مع الوقائع والأحداث الموضوعية. إنها ثقافة محافظة في جوهرها ولهذا فإن الانماط الفكرية التي تنتجها ماضوية في ماهيتها، ماضوية في أدائها.
5:1 ثقافة تراثية دينية تعيش في عمق اللاوعي في الشخصية العربية تجد لها متنفسا عند الشدائد والازمات فيزول غشاؤها وطلاؤها الخارجي، وتتكشف أصولها الغير واضحة، تتعرى عن دوافع ودعاوى دينية في نسختها الخرافية بعيدا عن انجازات العقل المسلم في تراثه المعرفي التراكمي الذي حجبته إفرازات الخرافة والاسطورة التي سيطرت على هذا العقل في عصور الانحطاط ..
6:1 غياب التخطيط والبرامج البعيدة المدى التي ترسم أهداف الأمة البعيدة في النهوض من حالات التخبط العفوي والارتجالي في تناول القضايا حتى بقيت حركة الأمة تراوح بين فعل الآخر ورد فعلها عليه، وبهذا فقدت صفة المبادرة لتحقيق خططها وبرامجها .. ويوما بعد يوم وسنة بعد أخرى عمّق الصراع العربي الاسرائيلي، روح الهزيمة في الارادة العربية، وهانت عزيمتها، حتى قد يُخيل ان هذه الارادة والعزيمة قد تلاشت وذهبت ريحها حتى أصبحت اليهودية هاجس الأمة المزعج الذي لا يفارق خيالها. وبات المستقبل العربي مهددا .. عندها تحولت اليهودية في الوعي العربي قوة عظمى، قوة خفية تـُسيّر أمور العالم، لا يجدى استمرار الصراع معها. قوة تتحرك من خلال قوة العالم الغربي الاستعماري. وحال الضعف والعجز الذي يمر بها العالم العربي جعله يتفكك أكثر، وجعل كل دولة قطرية تلوذ هاربة وحدها من الاجماع العربي، الى ما تظنه مصلحتها الذاتية الضيقة..! وفقدت الأمة الثقة والطمأنينة في أن تجد الوقت الكافي تجلس فيه لتلتقط أنفاسها وهي متوازنة، حتى تفكر أين تكمن بالفعل مصلحتها ومصلحة أمتها .. وتسارع الأحداث مع الضعف والعجز الذي تعاني منه جعلها خائفة مذعورة لا تلوي على شيء. وعندما يفقد المرءُ ارادته، يفقد معها الميزان الصحيح في تقييم حاله والتمييز بين أسباب القوة ودواعي الضعف .. وهكذا تتراكم مع الحالة العربية أسباب الضعف والعجز والوهن، ومن جهة أخرى تتراكم عند الآخر أسباب القوة والقدرة والإمكانيات.
2- وأما االفئة الأخرى فهي الأمم الاوروبية والامريكية، حيث وقفت على قوة اليهودية وقدراتها على صعيد المال والعلم والفلسفة، ونفوذها الذي تمارسه، ويكاد يطغى على رؤوس الاموال والشركات الكبرى، خاصة فيما يعرف بالشركات المتعددة الجنسية، ومن ثم ينسحب هذا التأثير على الجانب السياسي. وقد استطاع هذا التأثير ان يترجم بلغة واضحة ذلك الدور الذي لعبته الحركة الصهيونية الاستعمارية في توفير الظرف الدولي والاقليمي لقيام دولة اسرائيل ورعايتها حتى يومنا هذا.
ويصف نيتشه، الفيلسوف الألماني، دور اليهود وتأثيرهم في المانيا واوروبا بالكلمات التالية: "... حتى اليوم لم ألتق بألماني واحد يحمل في قلبه ذرة حب لليهود .. كما أننا لا ينبغي ان نخدع أنفسنا في هذا الموضوع، الذي يتعلق بالتأثير اليهودي في ألمانيا، والدور الذي يمكن ان يقوموا به .. فقد كثر اليهود حتى باتوا يملأون المعدة الألمانية، وتغلغلوا عميقا في الدم الألماني، وهذا ما يحتم هلى الالمان ان يعملوا بجهد، وبشق الأنفس ولزمن طويل حتى يستطيعوا تنظيم أنفسهم وأمورهم مع وجود هذا الكم الهائل من اليهود .. ومن الواضح جدا لو رغب اليهود، او أضطرتهم اللاسامية ودفعتهم لكي يجسدوا تأثيرهم وسيطرتهم الحاسمة في الاستيلاء على السلطة وحكم اوروبا لتمكنوا من تحقيق ذلك بكل تأكيد....".(19)
هذا ليس كلاما سوقيا، بل هو كلام فيلسوف يعيش عصره ويعيش حاضره، ويعيش كذلك وضع بلاده ألمانيا وهمومها ويعترف بما لليهود من نفوذ في بلاده وفي اوروبا.
وهذه أسرة روتشيلد التي كانت تعيش في فرانكفورت بألمانيا وهم خمسة أخوة والدهم يدعى أمشيل ماير كان يتعاطى بنجاح الأعمال المصرفية وقد عرف أولاده ب "سادة فرانكفورت الخمسة". وقد استقر كل واحد منهم في احدى العواصم الاوروبية، فقد تولى امشيل وهو اكبرهم إدارة اعمالهم في فرانكفورت، وتولى سلومون ادارة الاعمال في فينا، واتجه الثالث وهو ناتان الى لندن وكان أكفأهم، بينما توجه جاكوب او (جيمس) يعقوب الى باريس، وأما أصغرهم وهو كارل فقد اتخذ نابولي مقرا له .. وقد اعتاد هؤلاء الأخوة عقد اجتماع سنوي بينهم يبحثون امورهم المالية وكيفية إدارتها .. وقد كانوا أكثر اطلاعا على بواطن الامور وخفاياها من رؤساء الدول وملوكها .. وقد أصبح آل روتشيلد الممولين الأوائل لدول الحلف وشركائهم .. وهكذا لم يبق في وسع ملوك اوروبا الاستغناء عن خدماتهم. ومعظم القروض الكبرى التي وقعت بعد عام 1830 تمت على ايديهم وبواسطتهم .. أصبح آل روتشيلد مضرب الامثال في الغنى والثراء. اذ كانوا يقولون: "هو في غنى روتشيلد".(20)
وهذا توسيل من اتباع مدرسة فورييه الفلسفية يصرح عام 1844 ثم يكتب عام 1847 رسالة بعنوان: "اليهود هم ملوك العصر" جاء فيه قوله: "ما من أحد يعرف ويقدر أكثر مني ما للامة اليهودية من عبقرية وموهبة عالية، فليس من ملك في فرنسا غير اليهود. فاليهودي هو الذي يملك عندنا ويحكم، فاليهودي الانجليزي والهولندي والجنيفي يؤلفون اليوم أسباط اسرائيل الاربعة – وهم ملوك اوروبا الاربعة .. إسرائيل الذي يدعي انه شعب الله المختار، هذا الشعب الضاري ، المفترس الذي يعيش على الخطف والربا الفاحش، والذي ينهش في جسم البشرية نهش النسور للجيف".(21) ومع ما في هذا الكلام من قسوة وتجريح، لكنه يعكس بصدق ما لليهود من تاثير في الواقع الاوروبي والأمريكي، في مجال الاقتصاد والسياسة والعلم والفسفة.
وهذا رجل الفسلفة والمنطق الدكتور طه عبد الرحمن يقول: "لقد أضحت "المانيا" منذ نهاية القرن الثامن عشر مركزا عالميا للثقافة اليهودية كما كانت قبل ذلك اسبانيا مركزا للثقافة اليهودية في القرون الوسطى وهي تحت حكم العرب. وقد تجلى تأثير الثقافة اليهودية في المجال الفسفي بأشكال مختلفة، نخص منها بالذكر أربعة:
1- أعظم فلاسفة الألمان تاثروا بفلاسفة اليهود بطريق مباشر وغير مباشر، كتأثر "لينتز" بموسى بن ميمون، وتأثر "كانط" بسبينوزا وبصديقه ابن مندل.
2- مارتن لوثر جعل المسيحية في صورتها "البروتستانية" تزداد قربا من اليهودية. وهو قد وضع ترجمة للتوراة باللغة الالمانية نالت اعجاب اليهود.
3- إن فلاسفة الالمان على اختلاف اتجاهاتهم ونزعاتهم كانوا يقتبسون مفاهيمهم المحورية من "التوراة".
4- إن الفلسفة اليهودية قامت بدور الوسيط بين الفلسفة "اليونانية" والفلسفة الالمانية. وهذا كانط الذي يعدُّ أكبر فيلسوف في الأزمنة الحديثة، قد اجتمعت فيه كل اشكال هذا التهويد وهي "التأثر بفلاسفة اليهود" و"العقيدة البروتستانية" و"التماس المفاهيم من التوراة" و"التوجه العقلاني المجرد" صار معدودا بمثابة النموذج الأمثل لهذا التداخل بين ما هو "الماني" وما هو يهودي، كما يؤكد ذلك فيلسوف التفكيك جاك دريدا. وقال عنه "هيجل" باليهودي المخجل، كما انتقده "نيتشه" على نزعته اليهودية.(22)
هذه اقتباسات قليلة وقليلة جدا، في هذا الموضوع التي تؤكد دور اليهود وإمكانية تلبسهم على الفكر الانساني، ومدى تاثيرهم في القرار على المستوى الاوروبي والامريكي، ومن خلال هذا التأثير يحضر دورهم في السياسة الدولية والاقتصاد الدولي، وكذلك في الثقافة العالمية.
وهذا الفيلسوف اليهودي "هريمان كوهين" الذي كان يرى في كانط خير من يمثل هذه الفلسفة العالمية ذات الاصل الألماني اليهودي(23) .. وهكذا غدونا نشهد في مجال الفكر الحديث تشكل فضاء فلسفي يهودي عالمي يندمج فيه غير اليهودي اندماج اليهودي فيه. عن قصد او عن غير قصد. وهذا يعني ان الفلسفة القومية اليهودية استطاعت ان تتستر على أصلها القومي وتنزل نفسها رتبة الفلسفة العالمية .. بحيث تمّ الدخول الآن في الطور الثاني من تهويد الفلسفة. فبعد تهويد الفلسفة "الالمانية" خاصة جاءت مرحلة تهويد الفلسفة عامة .. خاصة بعد ان تم نقل المركز العالمي لليهودية من "المانيا" الى "امريكا"، سخر اليهود المهاجرون – وكثير منهم من يهود المانيا – كل مؤسساتهم الدينية والثقافية لخدمة اغراضهم في الهيمنة على الانتاج الفكري فضلا عن الهيمنة في مجال الاقتصاد.


الدور اليهودي في تخريب العلاقات العربية – السوفياتية:
لا نقصد ان نثير هنا حجم وخطورة الدور اليهودي في حوادث ووقائع الثورة البلشفية، فإن واضع النظرية نفسه يهودي. والزعماء السوفييت أصحاب الأدوار الرئيسية والمركزية هم من اليهود. وشهرة هذه الامور تغنيها عن الدليل. وكذلك فإن المصلحة الاولى في انتصار الثورة البلشفية في روسيا من مصلحة تخلص اليهود من النظام الملكي القيصري، الذي كان يضطهد اليهود بشكل واضح. وانما نقصد تأثير اليهود في الدبلوماسية السوفياتيةفي الربع الأخير من القرن العشرين. حيث بدى نشاط الدبلوماسية الاسرائيلية واضحا في بعث الوساوس والهواجس في صدور الساسة الروس. بأن الأنظمة العربية والثورية منها بشكل خاص الذي تربطه معها علاقات طيبة، هي أنظمة متأرجحة وغير مستقرة وأمامها واحد من احتمالين:
1- إما التحرك باتجاه الولايات المتحدة وعقد صلح مع اسرائيل كما فعلت مصر.
2- وإما استبدال هذه الأنظمة بأنظمة إسلامية كما حدث في ايران وكما حدث مع محاولة الاخوان المسلمين الاستيلاء على السلطة في سوريا خلال أحداث عام 1982.
وباعتبار أن الايديولوجية الماركسية لا تتعايش مع الأديان بشكل عام ومع الاسلام السياسي بشكل خاص، حيث تدين به مناطق شاسعة وهامة من الاتحاد السوفييتي .. ومن جهة اخرى فإن اسرائيل تعتبر أن الاسلام السياسي هو خصمها العنيد، فإن المصالح الاسرائيلية والسوفياتية تتقاطع في مفصل رئيسي وينبغي ان يتم التنسيق بينهما من اجل تطويق هذا الخطر. خاصة مع انتصار الثورة الاسلامية في ايران التي تمس الحدود السوفياتية مباشرة، وقد زيّن الساسة الاسرائيليون للسوفييت فائدة ابعاد الخطر الاسلامي عنها باحتلال افغانستان او بمساندة نظام افغاني يكون قريبا من المصالح الروسية.
ومن يتابع الفكر السياسي اليهودي يجده في طروحاته لا يظهر عناصر الاختلاف مع الآخر، خاصة عندما يكون هناك مصالح مشتركة او حتى احتمال وجودها والآخر هنا هو كل ما هو غير يهودي، فهم لا يبرزون نقاط الخلاف، وانما ينشرون عناصر الانسجام والتوافق ونقاط الالتقاء وكذلك المصالح المشتركة مع الآخر، على عكس الساسة والمفكرين العرب والمسلمين، فإن منطلقهم يعتمد إظهار الاختلاف مع الآخرين، وإشهار الخصائص والمميزات. وقد يظهر الأمر طبيعيا عند دراستنا للسيرة الذاتية لليهودية من جهة والعروبة والاسلام من جهة اخرى.


سلوكيات الأقلية متضمنة ومتداخلة في مفاهيم الدولة الاسرائيلية:
الدارس لمنطق الدولة في اسرائيل مع وجود ايجابيات كثيرة في نظام الحكم فيها إلا ان ردود فعلها وكثير من تصرفاتها ما زال يعكس منطق وعقلية وتصرفات الأقلية .. يظهر ذلك جليا مع تعاملها مع الانتفاضة الفلسطينية وتصفية قادتها. ويمكن فهم ذلك وارجاعه لعدة أسباب منها:
1- لقد عاش اليهود كأقليات منتشرة في كل بقاع الارض ما يزيد عن الفي سنة، فأصبحت تفكر كأقلية، حتى انطبع في سلوكها وفي وعيها الاسلوب الذي تتعامل به الاقليات ومنها:
1:1 تعوّد ابن الأقلية على اخفاء خلافاته مع الآخر، خاصة عندما يكون الاخر هو الأكثر وهو الأقوى. وكذلك عدم إشهار خصائصه ومميزاته التي من الممكن ان تشكل نوعا من التحدي لثقافة وخصائص الآخر، خاصة في القرون الماضية ونرى الاقليات تسارع الى ابراز واشهار ما يتشابه منها مع الاخرين، لتنال الحظوة عندهم.
2:1 كل أدباء اليهود الذين عاشوا في ظل الدولة الاسلامية كانوا يحاولون نشر ثقافتهم في نطاق الحضارة العربية الاسلامية. ويندمجون معها سواء في مستوى الفلسفة او العلوم الاخرى. بل نرى مفكرا كموسى بن ميمون يعتبر الاسلام دينا كاليهودية، بينما لا يعتبر المسيحية كذلك.
3:1 بينما نرى ان المفكرين اليهودي في اوروبا والغرب ينحون منحى آخر مغايرا فيتبنون المسيحية بصفتها إرثا يهوديا متغافلين عن انكارهم لرسالة السيد المسيح وامه القديسة البتول، عليهما السلام، فيظهرون الأمور التي تتشابه مع المسيحية، خاصة كون المسيح من بني اسرائيل حتى طوروا اليوم ما يعرف "بالمسيحية الصهيونية".
2- وفي مقابل ذلك، فإن الأمة العربية والاسلامية من بعدها قد عاشت في شبه الجزيرة العربية وعلى تخومها كأمة حرة، حتى وهي تعيش حياة وكيان القبيلة، فعدم السكوت على الضيم والفخر بالأنساب واظهار الفضائل والميزات بالشعر والنثر كان يميز الحياة العربية، وبما انها لم تحكم من قبل الأجنبي حكما مباشرا فقد تجذّرت بها هذه الطباع والصفات. ثم جاء الاسلام وعزّ العرب في اكنافه، وهكذا فإن العربي لم يعش قبل الاسلام وبعده حياة الاقلية وما عرفوا طباعها، ولهذا نرى:
1:2 ان العربي وهو يعيش حياة الأقلية يغلب عليه منطق وتفكير ابن الاغلبية، فلا يتكيف بسرعة لطباع الأقلية وسلوكياتها، وتغلب عليه الصراحة والمكاشفة.
2:2 ولهذا نرى ان الأمة العربية وهي تعيش اليوم حالات الضعف والوهن والتمزق الفعلي تراها في ادبياتها واعلامها تعكس قوة التراث والتاريخ، بينما يعرف اعداؤها واقع أمرها وقوتها.
3:2 من أجل ذلك ترى الاعلام العربي على مستوى مثقفيه وسياسييه، يبرزون خصائصهم ومميزاتهم التي يختلفون بها عن اعدائهم .. ويظهرون في دراساتهم وابحاثهم نقاط اختلافهم مع غيرهم، خاصة اذا كان هذا الغير هم خصومهم. وكأن المصالح العربية مناقضة لمصالح غيرهم، خصوصا الاوروبيين والغربيين. هذا التوجه يسهل على اعداء الأمة أمر المكر بها والكيد لها. بل هم أنفسهم يساهمون في ذلك .. ومن أمثلة ذلك الخطاب الاسلامي الذي يمسي ويصبح، وهو يوقظ في الانسان الغربي الهاجس التاريخي، ويبعث فيه أحقاده التاريخية المتمثلة في الصراع الممتد عبر التاريخ .... لا أدري سببا اسلاميا واحدًا يدعونا لتبني مثل هذا الخطاب التحريضي .. كما أني لا ادري فائدة ترجى للقضية الاسلامية من هذا التوجه سواء في قضية دعوة الاوروبي لاعتناق الاسلام، او في قضية كسبه لجانب الحق السياسي العربي .. او حتى العمل على تحييده.!
لكن ينبغي ان نفهم هذا الخطاب في السياق العام الذي ينسجم مع الواقع العربي والاسلامي حيث انه كما سبق ان اسلفنا قد أسلم حاضره لماضيه لذلك لم يستطع تطوير منهج دعوته أو خطابه الديني او القومي. وهكذا فهو يدعو الاوروبي للإسلام من خلال تذكيره بمعارك اليرموك وحطين وغيرها .. ويظهر انها دعوة "موفقة" نجحت في إدخال اوروبا وامريكا في المعسكر المعادي للعرب والمسلمين ..!! وعلى ما يبدو فإن هذا هو الذي تسعى اليه تلك الجماعات.

السوفييت يندفعون الى مصيدة أفغانستان:
كانت لنتائج حرب رمضان – اكتوبر 1973 ردودا فعل ايجابية على النفسية العربية، فتهيأ المناخ لولادة قابلية في الارادة العربية للتحدي، فقد قاتل العرب بالسلاح الذي بين ايديهم وصمدوا للحرب مع عدم تكافؤ السلاح الذي بين ايديهم مع السلاح الاسرائيلي. مما يدل على ان توفر الارادة والعزيمة يخلق المبادرة الأمر الذي جعل حكام شبه الجزيرة العربية يتأثرون بالجو العام الذي اوجدته هذه الحرب وصمود العرب فيها الى إشهار سلاح البترول والقيام بعملية جريئة بقطع البترول عن الدول الغربية .. الأمر الذي نبّه الغرب الى خطورة الاوضاع في المنطقة، وخطورة بقاء البترول بأيدي العرب. وبدل ان يستفيد التخطيط العربي من يقظة روح المقاومة في الأمة ومحاولة مدّ هذه الفترة الزمنية الى ابعد حدود طاقتها، حتى يتوفر الوقت الكافي لتشكيل ارادة عربية حقيقية وتطويرها بحيث تستطيع ان تحتل موقعا حقيقيا يمكنها من الامساك بالظرف المتوفر والملائم لتدخل من خلاله كطرف رئيسي في ادارة الصراع سواء مع عدوها الخارجي او على النطاق الداخلي في تجاوز المعوقات الذاتية التي تمنعها من اجتياز عتبة التخلف في مستواه الصناعي والإداري .. فقد برهنت الدبلوماسية العربية عن تخلفها وتثاقل حركتها في الاستفادة من نتائج حرب 1973 وتطوير آلية ومنهج سياسي لاستمرار الصراع ومن ثم كسبه. لكن على ما يبدو فإن الارادة العربية بخلفيتها الفكرية والعقائدية لم تـُعدّ لسباق المسافات الطويلة فجاءت المعركة العسكرية ليست من اجل ان تكون محطة تزويد على درب الصراع الطويل وانما من اجل توفير مناخ افضل لإنهاء الصراع كما حصل مع مبادرة السادات السلمية، حتى وهي تشكو من عدم جدية الدعم المالي العربي لاستمرار الصراع مما يدل على:
1- عدم توفر ارادة عربية فاعلة لادارة صراع طويل.
2- غياب التخطيط الاستراتيجي وتكييف الواقع العربي للعيش مع هذا الصراع ومحاولة الاستفادة منه في صياغة هوية عربية تتفاعل مع هموم العرب وقضاياهم وتعمل على حشد القوة وبعث حوافز التحدي القائم على عامل الخوف على المستقبل العربي، فإن صياغة المعادلة الاجتماعية والسياسية والثقافية في ظروف الصراع أسهل منه في ظروف اخرى.
3- أن الحماس المؤقت الذي أظهره العرب كان أقرب الى نخوة الجاهلية منه الى بعث شعور قومي منتمي منفعل مع الاحداث.
4- ضرورة توفير قيم ومبادئ مشتركة يجمع عليها العرب كسلاح استراتيجي لا غنى عنه في تفجير طاقات الامة ودرجة تحملها لتبعات الصراع.
5- عدم قدرة العرب على بناء تحالفات جادة مع القوى الفاعلة في السياسة الدولية.
6- عدم وجود سقف محدد للآمال والتطلعات العربية متفق عليه، مما جعل مبادرة السادات السلمية، تبدو وكأنها محاولة خروج من الصراع العربي الاسرائيلي من الجانب المصري .. ولم يستطع العرب حتى الاستفادة من الظرف المتاح للحصول على تحقيق اكبر قدر من الاهداف سواء القومية او الوطنية .. حتى أنهم لم يفقهوا كيف يستغلون المناخ السياسي الذي أعقب نتائج حرب 1973 لخوض معركة دبلوماسية ناجحة.
هذا الوضع جعل اسرائيل ومعها الولايات المتحدة، وحلف الناتو تستفيد من هذا الوضع لتقوم بعملية التفاف حول حركة القومية العربية على ضعفها وبطء حركتها .. فأصبح حال الجامعة العربية في هذه الأوضاع كحال تركيا في القرن التاسع عشر، حيث أطلق عليها الاوروبيون لقب "الرجل المريض". وأما حركة القومية العربية المتمثلة بالجامعة العربية مرة او في الأنظمة "الثورية" مرة أخرى وكذلك الأنظمة المحافظة فقد استنفذت طاقاتها المخزونة في صراعات داخلية، مما أفقدها الحركة السريعة المنتظمة، وبالتالي فإن التناقضات الثقافية والسياسية المفتعلة في الكيانات العربية على مستوى الدولة القطرية داخليا، ومع غيرها من الدول العربية، جعل هذه الدول ومعها القومية العربية تشيخ وهي في "عزّ صباها"، فقد ولدت فكرة القومية العربية في اصلها عاجزة عن تحقيق أيا من أهدافها وطموحاتها. لأنها حُملت بافكار متناقضة وثقافات متباينة مبتورة عن وسطها وبيئتها، والتي قامت بتهريبها مجموعات من المهربين الدوليين للثقافة. من بينها مجموعات إثنية وطائفية تعلقت بجسد الأمة تتغذى منها وهي تكيد لها وتمكر بها. ولهذا كان لا بدّ لولادتها (الدولة القومية) بعملية قيصرية جرت على يد الاستعمار البريطاني والفرنسي والصهيوني. وبهذا حملت الامة من هذا السفاح بحمل غير شرعي في حواشي القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فولدت القومية العربية عجوزا مشوهة تتحرك بعكاكيزها منذ ايام ولادتها الاولى.
ستصفنا مجموعة المهربين الدوليين للثقافة، أننا نعاني من عقلية "المؤامرة" حتى ترهبنا من إعادة التفكير في بحث اصول هويتنا وانتماءنا، وتمنعنا من ان نثير الأسئلة التي ينبغي ان تـُسأل، اذا كنا فعلا جادين وصادقين في معالجة إشكاليات النهضة العربية والاسلامية، إن التفتيش عن معوقات النهضة العربية بين طيات وملفات الأزياء الفكرية القومية هي محاولات جديدة ومتكررة لنمط التفكير الذي ساد مع بداية القول والحديث عن النهضة العربية .. وهي عملية استنفاذ للطاقة من غير مبرر، بل انهم بذلك يعيدون علينا حكاية "ابريق الزيت" .. أجل هناك مؤامرة ومؤامرة محبوكة بإتقان، تتلبس على العقل العربي، الذي فقد آلياته الدفاعية منذ مئات السنين، واضاع هويته وهو يتقلب بين ايدي جماعة المهربين الدوليين للثقافة .. مجموعات المهربين هؤلاء قد بدأوا عملهم منذ فجر الاسلام، وبشكل متواصل، فزرعوا في وجدان الأمة وعقلها قضايا عقائدية زائفة، أنتجت عواطف كاذبة حول شخصيات تاريخية ومعاصرة غير عربية، وغير اسلامية، وحاكت افكارا وقضايا باطلة ونسجت اوهاما وأساطير حول شخصيات تم زرعها في كيان الأمة وتمّ تربيتها برعاية فائقة حتى تلبست على الأمة فأصبحت وكأنها جزءا من تاريخ الأمة وتكونت حولها عواطف عامة، لا تستطيع الأمة الإتـّباعية المقلدة تبينه ولهذا بات من العسير التخلص منها من غير حدوث انفجار كبير في مركز كثافتها تزيح عنها هذا الكم المتراكم من هذا النسيج الذي كوّن مخيالا اجتماعيا وثقافيا يلف الأمة طيات فوق طيات ..
أجل سنقولها ولن نخشى او نملّ من ترديدها مرات ومرات، إنها مؤامرة وكل هؤلاء الذين تجندوا لمحاربة كل من قال أن هناك "مؤامرة" هم جزءٌ لا يتجزأ من المؤامرة، وهم أدواتها والأصابع التي يحركها الأجنبي في كيان الأمة.
وهكذا فإن سيناريو "الرجل المريض" بأطبائه الاوروبيين قد أخلف "تركيا الفتاة" و"عربية الفتاة" و"كردية الفتاة" و"ايران الفتاة" فتيات يحملن روح العجائز وقد شاخت وبان عجزها وآن الأوان لاستبدال اتفاقيات سايس-بيكو بسيناريو جديد يبدأ مع نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين.
مفصلية السنوات 1977 – 1982:
مع استمرار رعاية المناخ الثقافي والسياسي والبيئة الفكرية التي بدأتها العصابة الدولية للتهريب الثقافي واتساعها بل سيطرتها. الأمر الذي جعل العقل العربي يرتبك ويخاف من طرح قضايا الأمة الحقيقية بشجاعة وجرأة، خوفه من النفاذ عميقا الى مركز الإشعاع فيها، ليزيل هذه العوائق التي رانت على وجدان الأمة زمنا طويلا، تلك المنطقة التي يقف على حراستها "المقدس". تلك المنطقة الحرام التي لا ينبغي للعقل والفكر تجاوزها. وهكذا يجابه بحارس ذاتي اقامه التراث وبحارس خارجي يلصق به تهمة الفكر المأزوم ب"المؤامرة". حتى يسهل اقتلاعه من تربته او إسكاته وتركه محبطا يصارع التناقضات التي يشعر بها .. هذا التداخل والتشابك بين
الاصالة الحقيقية وعدم قدرتها على إنتاج خطاب واضح، يستطيع ان يزيح عن كاهله ما يغمره من بضاعة المهربين الدوليين للثقافة قد أعاق عملية اكتشاف الذات وبلورة هوية قومية واسلامية واضحة .. إن محاولات العقل العربي الاصيل تحسس طريقه للخروج من تحت هذا الركام الفكري المشرّع له دوليا، وكذلك تراكم التراث الارثي التقليدي، خاصة الفقهي والديني ببعده الخرافي، الذي يشكل قاعدة الانطلاق للحركة الدينية المعاصرة والتي تتغذى من انتاج هذا الكيان المصطنع لتعود في النهاية اليه. يجعل التفكير في تجاوز هذه المعوقات امرا خطيرا، إذ أن الثورة والتمرد او العصيان ليست هي الاسلحة النفاذة لمثل هذه الحالة المستعصية، بل ان المطلوب هو حدوث إنفجار هائل يستطيع ان يقذف بهذه التراكمات التي احاطت وما زالت تحيط بمرجعية الامة الوحيد وتمنع وصول اشعاعاته ووهج نوره الى القلوب والعقول التي تحيى به وتتحرك من خلاله. ولهذا نرى:
1- أن اعداء الأمة قد تلبسوا على أصالتها، فلم يعد العقل العادي قادرا على تمييزهم وتصنيفهم ومفاصلتهم، خاصة وقد أصبح بمقدورهم انتاج أنماط متعددة وخيارات متنوعة بحيث تم تسميم البدائل المتاحة التي تعرض نفسها كخيارات بين فترة وأخرى.
2- السلطة الخفية بدأت بإخراج السيناريو الجديد من احشاء السيناريو القديم بحلة جديدة مستفيدة من حركة التغيير التي تتم على حافة المجتمع الخارجية من وقت لآخر، بحيث يبقى العمق الجواني على ما هو عليه. فيتم تحويله او الانحراف به واحتوائه ومن ثم توظيفه ضمن استراتيجية اعداء الأمة.
3- كالذي حدث مع الثورة الاسلامية في ايران، حيث لم تستطع احداث الانفجار العظيم المطلوب والمتوقع لتخليص الاسلام من تراكمات العادات والاعراف، والعقائد الزائفة التي رانت على تاريخه .. لم تصل الى العمق الاسلامي الصحيح، لتخرج مع القضية الاسلامية وليس مع الشيعة الامامية او الاثني عشرية. ولهذا بقي التغيير الثوري في ايران يمس القضية الاسلامية عند حافتها ولم تتجاوزه الى قضية الاسلام والى اعتماد مرجعيته الوحيدة القرآن الكريم .. ولذلك يتمّ توظيف الجهد الايراني كثيرا في امورغير مجدية للمسلمين.
1:3 لقد اعتقد الاستعمار الغربي ان نظام شاه ايران القومي قد شاخ واستنفذ طاقاته. فكان مجيء الحكم الديني المعتمد على المذهبية الشيعية، فرصة يحاول المخطط الغربي توظيفه لصالحه، طالما لم يستطع منعه او توقيفه ..
2:3 بعث الهاجس والمخاوف السوفياتية من انتقال عدوى الثورة الاسلامية الى داخل حدود الجمهوريات الاسلامية السوفياتية – الأمر الذي جعل رد الفعل السوفييت يجيء مطابقا للتخطيط الغربي الصهيوني. فكانت الخطوة السوفياتية بدخول افغاستان هو المطلوب عمله من وجهة نظر الاستعمار الغربي وهكذا دخل السوفييت المصيدة الافغانية.
3:3 عندما فكر السوفييت في منتصف سنوات السبعين وما بعدها بدعم نظام موال لهم في كابول، حتى بدأت الأزمة الافغانية تسخن بسرعة بأيدي المقاومة المضادة من الافغانيين الذين يتم تجهيزهم من قبل المستعمر الغربي وعملية تجييش المتطوعين المجاهدين من العالم العربي والاسلامي او ما أطلق عليه الاعلام الغربي "الاسلام الجهادي" وبدعم من باكستان والسعوديين وإمارات الخليج وكثيرا من الانظمة العربية. مما اضطر السوفييت الى قبول التحدي والتدخل المباشر بإرسال ما يربو عن مئة وخمسين الف جندي سوفييتي لاحتلال افغانستان .. وباشرت الولايات المتحدة والصهيونية بالتنسيق مع باكستان والسعودية ودول الخليج وغيرها من الأنظمة العربية بحملة هائلة، استخدم فيه العلماء "المجاهدين" ادبيات الجهاد الاسلامي من اجل حشد عشرات الالوف من المتطوعين العرب والمسلمين للجهاد في افغانستان مما جعل الصحفي اللامح محمد حسنين هيكل يكتب متهكما: "واشنطن تؤذن للجهاد في كابول".(24)
يقول هيكل: "وقبل نهاية السنة الاولى في تاريخ الجهاد الافغاني وهي سنة 1980 كان مكتب الخدمات العامة في السعودية وفرعه المتقدم في "بيشاور" قد نشطا تحت قيادة الشيخ "عبد الله عزام" وهو استاذ اردني من اصل فلسطيني كان عضوا في "حزب التحرير الاسلامي" الذي تعاون في الخمسينات مع حلف بغداد". ويروي هيكل ان المتطوعين العرب من المجاهدين قد اضربوا عن الجهاد ذات مرة(25) لكي يساوموا على مصيرهم بعد تحقيق الانتصار على السوفييت. فكان ان حضر رئيس المخابرات المركزية الى باكستان واجتمع بقادة المجاهدين وأخبرهم بأن الولايات المتحدة لن تنساهم وكان في حقيبته ما يزيد عن 2000 بطاقة خضراء يمنحها لمن يحسن الجهاد ضد الروس. وكان من بين من حضر هذا الاجتماع هو د. عمر عبد الرحمن المصري وقد حصل على بطاقة خضراء".. والذي أصبح ارهابيا بعد اتهامه بتفجير المركز التجاري في الولايات المتحدة ..!
وقامت جماعات اسلامية كثيرة من بينها ما صاغته اليهودية العالمية والمخابرات المركزية الامريكية، كاحتياطي يتم توظيفها واستدعائها عند الحاجة، وجماعات اخرى يتم استغفالها ومن ثم تجنيدها لصالح عدوها. من حيث لا تدري، خاصة وهذه الجماعات لم تستطع ان تقرأ الوضع السياسي فضلا عن ان تفهمه وتستوعبه سواء الاقليمي او الدولي. وكما سبق ان أكدنا، كل من لا يملك مبادرة ذاتية فسوف يتمّ توظيفه من قبل الآخر. وقد نتج عن هذا الوضع:
4:3 تخريب العلاقة السوفياتية-العربية حتى يتمّ تحييد القوة السوفياتية في صراع الشرق الأوسط بين اسرائيل المدعومة من الغرب الاستعماري وبين العرب، خاصة بعد ان خرجت مصر من هذا الصراع. وبهذا خسر الطرف العربي مصر كاحدى المكونات العربية الرئيسية في هذا الصراع على الصعيد الاقليمي وكذلك خسر العرب السلاح السوفييتي مع الفيتو السوفياتية كمظلة وقائية استراتيجية على المستوى العالمي.
1:4:3 إضعاف القوة السوفياتية وتآكلها كشف ظهر حركة التحرر الوطني في العالم.
2:4:3 تزامن مع ذلك محاولة الاخوان المسلمين الاستيلاء على السلطة في سوريا، هذا النظام الذي يعتبره السوفييت حليفا لهم. الأمر الذي اوقع الساسة السوفييت في ارتباك شديد، فلم يعودوا يأمنون على مساعداتهم العسكرية خاصة لبلد كسوريا يمكن ان يسقط بأيدي خصمهم "الاسلامي" في يوم آت من الصعب إغفاله والتغاضي عنه. هذه المحاولة التي حذرت الصهيونية الاتحاد السوفييتي من مخاطرها.!
3:4:3 الامر الذي ترك سوريا تعاني من ضعف التماسك في جبهتها الداخلية وتمزيق نسيجه السياسي والاجتماعي، فضلا عن خسارة حليف خارجي صاحب فيتو قوي في القضايا الدولية.
5:3 أطلق الذراع الاسرائيلية لتطول المفاعل الذري العراقي، خاصة والعراق مشغولة بحربها مع ايران.
6:3 احتلال اسرائيل لجنوب لبنان، ثم احتلال بيروت، عاصمة دولة عضو في الامم المتحدة، كشف عورة الردع العربي وغياب الفيتو السوفياتي وتم طرد منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، ويظهر انه بالاضافة الى كونه مطلبا اسرائيليا، فقد كان يستجيب لرغبات سوريا الداخلية، والتي دخلت لبنان لمحاربة منظمة التحرير الفلسطينية الى جانب لبنان، كما تشير الى الاتفاق الضمني مع اسرائيل خاصة في معارك تل الزعتر القاسية والشرسة بين الجيش السوري ومنظمة التحرير.
4- توريط العراق وايران في حرب مدمرة، بدأت مع نهاية سنوات السبعين وبداية الثمانينات من القرن الماضي. هذه الحرب الضروس التي استنفذت الطاقات المخزونة في البلدين لثماني سنوات عجاف، كانت حصيلتها مئات الآلاف من الضحايا من كلا الطرفين. وكان من نتائجها:
1:4 تخريب العلاقة العربية-الايرانية، حيث ان الدول العربية، والخليجية منها بشكل خاص قد قدمت الدعم المتواصل للعراق، على أمل ابعاد الخطر الايراني الذي تمثل باحتلال بعض الجزر التابعة لدولة الامارات العربية من قبل شاه ايران، واحتفاظ الثورة الايرانية بهذه الجزر. الامر الذي اعطى الانطباع ان تغير الحكم في ايران، لم يساعد بتنقية العلاقات مع العالم العربي.
2:4 الحرب العراقية الايرانية أفرغت منطقة الخليج من امكانية تعاون استراتيجي بين ايران والعرب للحفاظ على ثروة الخليج البترولية من أطماع الغرب، كما حدث لاحقا.
3:4 حاولت الصهيونية تحت لواء الولايات المتحدة ان تثير مخاوف العرب من تطلعات ايرانية في محاولة لتصدير ثورتها الاسلامية الى دول المنطقة. ومن اجل حصارها قام ما يعرف باتفاقية "درع الصحراء" المكونة من الولايات المتحدة + المغرب + مصر + السعودية + دول الخليج. واتضح فيما بعد ان هذا التحالف كان في اساسه موجه ضد العراق وليس ضد ايران.
4:4 هذه الحرب أحرجت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية التي لم تستطع ان تتخذ استراتيجية واضحة من قضيتها فتحافظ على حياد ما بين النزاعات المحلية والاقليمية. فكان لانحيازها هنا وهناك نتائج سلبية جعلها تخسر تأييد هذا الطرف او ذاك.
5:4 تضاعف النشاط المخابراتي الاسرائيلي مع المعارضة العراقيةوخاصة الكردية منذ سنوات الستين والسبعين من القرن الماضي. ومنذ وقت مبكر وهي ترعى وتغذي المنشقين الأكراد وتزودهم بالسلاح والمدربين الأمر الذي جعل النظام العراقي يقوم بعملية انتقام كبيرة من المنشقين الاكراد، الذين حاولوا طعنه بالخنجر الاسرائيلي من الخلف اثناء انشغاله بحرب ايران.
هذه هي الصورة في داخل البيت العربي والاسلامي وفي خارجه كما هي في واقع الأمر، قبل ان تبدأ عملية انهيار الاتحاد السوفييتي، والتحضير لظهور عدو مكان الاتحاد السوفييتي – هذا العدو الذي تمّ تصنيعه وتشكيله بايدي الاستعمار الغربي نفسه إنه "الاسلام الجهادي" الذي استخدمته الصهيونية والولايات المتحدة في حربها مع الاتحاد السوفييتي فعملت على الوقيعة بالعلاقات العربية السوفياتية، وكذلك كان لهذا "الاسلام الجهادي" دور في تخريب العلاقات بين دول المنطقة ذاتها على الصعيد الاقليمي، وكذلك في داخل الدول بين مجتمعاتها العربية والاسلامية، فكان التمزق والارتباك والقلق هو نصيب هذه المجتمعات، مما جعلها، كما اسلفنا مكشوفة امام الأخطار المحدقة بها من كل جانب، من الاستعمار في الخارج ومن عوامل الضعف والتخلف والتمزق من الداخل. حلقات محكمة ومتصلة تحيط بهذه المجتمعات، حتى أصبح وضعها يثير الفزع .. فالأفاعي الطائفية والعرقية والتضاربات الفكرية والثقافية التي تعيش داخل البيت العربي والاسلامي، جعل كل حركة داخل البيت مشبوهة ومعرضة للوقوع فريسة لتلك الافاعي الداخلية بينما عصابات اللصوص تحيط بالبيت من خارجه.
الهوامش:
1. طه عبد الرحمن: الحق العربي في الاختلاف الفلسفي – المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء 2002، ص137-168.
2. القرآن الكريم.
3. للمزيد انظر: رحلة الانسان ما بين الفكر والاعتقاد – محمد سعيد ريان – منشورات الطلائع – الناصرة، إصدار دائرة المعارف العربية 1995.
4. المصدر السابق، ص57-64.
5. انظر: "الهموم القومية وهموم الناس" – د. عزمي بشارة، فصل المقال، 2.5.03 .
6. المصدر السابق.
7. من بلفور وتشرتشل الى بوش وبلير – منهج ترتيب الشرق الاوسط هو نفسه لم يتغير – جوني منصور – فصل المقال عدد 2.5.03، ص22.
8. الشيعة والتصحيح – الصراع بين الشيعة والتشيع – الدكتور موسى الموسوي – طبعة لوس انجلوس 1987، ص62.
9. المصدر السابق، ص87، 88.
10. المصدر السابق، ص136.
11. عقيدة الامامية عند الشيعة الاثني عشرية – د. علي احمد السالوس – دار الاعتصام القاهرة 1987، 168.
12. المختصر في علامات المهدي المنتظر – ابن حجر الهيثمي، تحقيق د. محمد زينهم محمد عزب – دار الصحوة للنشر القاهرة 1986، ص32.
13. المصدر السابق، ص63.
14. تعريف بمذاهب الشيعة الامامية – محمد احمد التركماني – جمعية عمال المطابع التعاونية – عمان ط1 1983، ص108.
15. الفتاوى – الامام محمود سلتوت (شيخ الأزهر) ط2 دار القلم – القاهرة، ص59-65.
16. التفسير الصوفي للقرآن عند الصادق، د. علي زيعور، دار الاندلس ط1 1979 لبنان، ص239.
17. المصدر السابق، ص240.
18. رحلة الانسان ما بين الفكر والاعتقاد – محمد سعيد ريان – منشورات الطلائع الناصرة 1995، ص24، 25.
19. انظر عندما يصغر التاريخ، للكاتب نفسه – مركز الحضارة العربية – القاهرة 2002، ص70 منقولا عن كتاب: "ما وراء الخير والشر" نيتشه – الترجمة العبرية – د. يسرائيل ألداد، تل ابيب 1967، ص171، 172.
20. تاريخ الحضارات العام – مجلد القرن التاسع عشر – روبير شنيرب – منشورات عويدات – بيروت – باريس ط3 1944 – المجلد السادس، ص56، 57.
21. المصدر السابق، 57.
22. طه عبد الرحمن – الحق العربي في الاختلاف الفلسفي – المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء – المغرب ط1 2002، ص60، 61.
23. المصدر السابق، ص62، 63، 64.
24. فصل المقال – واشنطن تؤذن للجهاد في كابول" – محمد حسنين هيكل، 15.2.02.
25. المصدر السابق ذاته.





الفصل الخامس:
انهيار الاتحاد السوفييتي وتنصيب "الاسلام الجهادي" عدوا جديدا:

مسلمين اسما وشكلا واعداء للاسلام فعلا وحقيقة:
لا بدّ لمن يملك بيده زمام إدارة الصراعات الاقليمية والدولية من اعتماد منهج متحرك ينتج البدائل المتنوعة لتوفير الخيارات اللازمة من فترة لأخرى. وهذه المناهج تجدها مبرمجة بحيث تنتج المعادلات الاجتماعية والسياسية والثقافية وكذلك الدينية المتوازية بين الدول وداخل المجتمعات، بشكل تظهر وكأن انتاجها ينمو نموا طبيعيا. وتصاغ تركيبة هذه المعادلات بحيث تتيح صياغتها لظهور صراعات ونزعات وتناقضات محددة تمسك القوى الخفية من خارج البلاد وداخلها بمفتاح المتغيرات المتلاحقة داخل هذه المجتمعات والدول، بحيث تبقى ردود الفعل من القوى المناهضة لهذه المناهج المبرمجة فاقدة لزمام المبادرة. تستيقظ في كل فترة على مشاكل وإشكاليات جديدة، بحيث لا تعطيها الوقت الكافي للتفكير الجاد والهادئ في استخلاص العبر والنتائج، وإمكانيات التحرك بالاتجاه الصحيح. وهذه المناهج تحوي من البرامج المتعددة والسيناريوهات المتنوعة ما تجعلها تشمل امكانية الانتاج الذاتي المتوافق في المحصلة النهائية مع البرنامج العام، بحيث يبدو وكأنه إنتاج محلي في مستوياته المتعددة: الطائفية والدينية والعرقية او القومية. ولا ينبغي ان يفوتنا في هذا الصدد ان المخطط الأجنبي الذي تمكن من اختراق نسيج الأمة في كيانها القومي وتوظيفه في تفكيك الدولة والمجتمع الاسلامي منذ القرن التاسع عشر فهو منذ ذلك الوقت وقبله وهو يعمل بشكل مزدوج على الصعيد الديني الاسلامي وكذلك على الصعيد القومي، وهو يحاول جاهدا استنفاذ أغراض الخطاب القومي، بحيث يصل الأمر الى تيئيس العرب من مشروع النهضة العربية وقيام دولته القومية القوية التي تستطيع توحيد كل العرب.
ومن جهة اخرى تعمل تشكيلاته الاسلامية ومراصده المتقدمة في هذا المجال لكي تتمكن من تفريغ الخطاب الديني من حرارته وفاعليته، عن طريق اعتماد قيادات وحركات تتلبس على الاسلام والمسلمين، محاولة تفريغ المعتقدات الاسلامية وكذلك الخطاب الاسلامي من قيمه ومبادئه. حتى بات الانسان لا يثق ولا يطمإن الى صدق وجدية هذه الطروحات وكأن مفاهيم الاسلام العامة وأخلاقياته المعهودة على مدى التاريخ غير موجودة .. فقد اختلطت معاني النص الاصطلاحي بالانتاج الثقافي الذي يتيحه هذا النص الاصطلاحي، ولم نعد نميز بين معاني النصوص الدينية وبين الادبيات التي تصاغ حولها. وبات المسلم العادي في حيرة وهو يستمع الى أدبيات الزهد والتقوى والمراقبة من الدعاة بينما يجدهم أشد الناس حرصا على امتلاك زينة الدنيا وزخرفها. بات يسأل كيف يستطيع هذا الداعية او ذاك توفير الاموال الطائلة ليقيم البيوت الفاخرة ويركب السيارات الغالية؟ بينما المواطن العادي يكدح في ليله ونهاره ولا يستطيع فعل معشار ما يراه في أيدي دعاته ومرشديه ..؟ وفات العقل العادي التمييز بين القول وبين الموقف .. فات العقل العادي التمييز بين معرفة الاسلام وبين معرفة الله، جل جلاله.! مما يشير الى ان الغرض من ذلك في المحصلة النهائية هو تيئيس المسلمين أفرادا وجماعات من امكانية قيام نظام يعتمد قيم الاسلام وأخلاقياته .. حتى أصبح الدارس لمثل هذه الظواهر اليومية يقترب يوما بعد يوم من الصيغة القطعية لخلفيات نشوء هذه الجماعات الاسلامية، التي يصوغ العديد منها وينتجها ذلك الأجنبي ليتم توظيفها في مشاريعه المعادية للعرب والمسلمين.
- كل الجماعات الاسلامية التي تعتمد في دعوتها اسلوب الخطاب التحريضي ضد الآخر وشحن نفوس أتباعها بالأحقاد والضغائن ضد الغير، والغير هنا ينسحب على كل الذين لا ينتمون الى جماعتي، حتى وإن كانوا من بين المسلمين، هذا الخطاب هو إنتاج غريب عن روح الاسلام وتعاليمه ..
- كل الجماعات التي لا ترى في تعاليم الاسلام تعاليم انسانية تقوم علىأواصر الرحمة والمحبة والتفاهم بين لناس، ولا تنبذ الفرقة وتعمد الى إلغاء الآخر من خطابها، وعدم التعامل مع المخالف إلا بعقلية الحذف والشطب والإلغاء فهي جماعات منحرفة يستهدفها الأجنبي، ويتم توظيفها في مشروعه الاستعماري الخبيث.
- كل الجماعات الاسلامية التي تبحث عن الدولة أكثر بكثير من بحثها عن الجنة، وتعتمد الأساليب السياسية مبتورة عن قواعدها الاخلاقية المعتمدة في منهج الاسلام وتعاليمه من اتباع للحق والعدل والصدق هي جماعات يسهل استغفالها ومن ثم احتوائها والانحراف بها.
- كل الجماعات الاسلامية التي تعتمد الخطاب القولي والهندسة الكلامية الصوتية ولا تتجاوزها الى اعتماد الموقف وتغذي ملكه معارفها الاسلامية بدل معرفة الله. فتصبح معارف الاسلام التي ينبغي ان تقود الانسان الى معرفة الله، سبحانه وسيلة لتحقيق غايات دنيوية يمكن ان يحصل عليها المرء بمناهج أخرى ... كما يتم استخدام فروض ومناسك الزكاة والصدقات والكفـّارات في غير الوجوه التي ينبغي ان تنفق فيها شرعا ليتم تحويلها من اجل تغطية مشاريع اقتصادية خاصة او جماعية .. كل هذه السلوكيات لا تعتمد تعاليم دين الله، بل تستخدمه لغرض دنيوي يمكن ان تحققه بطرق اخرى، وهذه الجماعات منحرفة عن تعاليم الاسلام ويسهل من ثمّ استغفالها وتوظيفها من حيث تدري او لا تدري.
- كل تلك الجماعات التي تعتمد الخطاب الرديكالي التحريضي المتطرف في طرحها لقضايا الأمة وعلاج مشاكلها، ولا تدين بالوسطية والاعتدال كما جاء في كتاب الله، هي جماعات يسهل استغفالها وتوظيفها ضد مصالحها ومصالح المسلمين.
- كل تلك الجماعات التي لا تعتمد الاسلوب الشوري الصحيح الذي يوضحه القرآن الكريم في العديد من المناسبات والآيات القرآنية، وما لم تحارب أشكال الاستبداد بالراي والموقف، وتعتمد منهج فرعون واقعا: "ما اريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل ارشاد" تشتمه لفظا وتعتمده موقفا وواقعا في تعاملها مع الاحداث والوقائع من حولها. هذه جماعات تعرف عن الاسلام ولكنها لا تنمو ولا تتغذى من موائده ولا تعيش مبادئه مواقف وأحداث.
- كل الجماعات التي لا تعتمد اسلوب الحوار في تربيتها ودعوتها مع اتباعها ومع الآخر وتعتمد اسلوب الشدة والقوة والقهر هي جماعات لا تتخلق بآداب الاسلام وتعاليمه.
- كل الجماعات التي لا تعتمد اسلوب دعوة النبي، صلى الله عليه وسلم، واسلوب دعوة الانبياء جميعا، عليهم الصلاة والسلام، البيّنة بيانا واضحا في القرآن الكريم ولا تحتمل التأويل، هي جماعات باطلة وفاسدة من وجهة نظر القرآن الكريم، وهي جماعات تشكل مادة لينة سهلة يتمّ توظيفها من قبل الأجنبي ويستخدمها كإحتياطي للاوقات المناسبة. إن لم يكن بالفعل هو الذي بادر الى تشكيلها وصياغتها.
كثيرة هي تلك القيادات التي تسكن خارج اوطانها، تسكن اوروبا او الولايات المتحدة، وتقوم ببث خطابها التحريضي المغالي من هناك، ضد مضيفيها من البلدان التي تأويها وتمنحها حق الاقامة وتغذيها بالمال والحياة الآمنة بينما هذه القيادات تعلن في الصباح وفي المساء ان مهمتها الرئيسية تكمن في الحرب على هذه الدول التي تستضيفها وتمنحها الحياة الآمنة، وتكفل لها الحياة الكريمة .. يقول أحدهم ان وجوده في اوروبا مثله كمثل الذي يدخل دورة للمياه يقضي حاجته ثم يخرج .. هل يمكن ان يتصور مسلم ان هذه اخلاق المسلمين؟ ولا حتى أخلاق الحيوانات الأليفة، إنها لا مثيل لها إلا وسط وحوش الغابة الأكثر ضراوة، إنها طبائع الذئاب وما أصدق ان يقال بحق هذه القيادات:
ومن يصنع المعروف في غير أهله يلاقي الذي لاقى مجير أم عامر
أو كما قالت عجوز البادية للذئب الذي ربته ثم عقر شاتها:
بقرت شويهتي، وفجعت قلبي وانت لشائنا ولد ربيب
غُذّيت بدرِّها وربيْت فينا فمن أنباك أن أباك ذيب
هذه قيادات رباها الاستعمار الأجنبي ويرعاها ويصونها كإحدى قواه الاحتياطية التي يتم توظيفها في مشاريعه الكثيرة، فهي انما بخاطبها التحريضي ضد المجتمعات التي اكرمتها ووفرت لها الحماية والأمن، منفرة من الاسلام وتعاليمه في تلك المجتمعات، لا سيما والمواطن الغربي يسمع صراخها وزعيقها ويلمس تصرفاتها السلبية التي لا يمكن ان تعكس اخلاقا وقيما مقبولة .. وليست في حقيقتها إلا اداة الاستعمار التي حارب بها الاتحاد السوفييتي في افغانستان تحت اسم "الجهاد الاسلامي" واليوم أصبح "الاسلام الارهابي" الذي تستخدمه الولايات المتحدة ذريعة لاحتلال البلاد العربية ومصادر الطاقة، كما حصل في العراق والخليج العربي وشبه الجزيرة العربية وغيرها من الدول العربية والاسلامية .. لقد جعلت هذه القيادات المصنـّعة في الغرب الاعلام الغربي يصور الاسلام والعرب على أنهم مصدر ارهاب وخطر على امن وسلامة البشرية ينبغي رصد حركتهم واجتثاث نشاطهم.


"الاسلام الجهادي" والتفجيرات في الولايات المتحدة (غزوة نيويورك وواشنطن):
أوضحنا في أكثر من موضع، في كتاباتنا السابقة ان ما يطلق عليه البعض الاسلام السياسي، او ما اسميناه تسييس الدين وتسييس العقيدة هو انحراف بيّن عن تعليم الاسلام السمحة، وكتبنا في ذلك غير مرة ان تسييس العقيدة ينطوي على خطر كبير، وانحراف عن مبادئ الاسلام الصحيحة، وبيّنا الفرق بين سياسة العقيدة وبين تسييسها، حتى يبقى الاسلام وتعاليمه قيمته في ذاته. فالاسلام السياسي يجعل من تعاليم الاسلام وسيلة لخدمة المشروع السياسي. وهذا الذي حدث في تاريخ المسلمين بعد فترة الخلفاء الراشدين. فقد جعل آل أمية وآل العباس والعثمانيين تعاليم الاسلام وسيلة لتثبيت سلطانهم. ولهذا فقد وضع بعض هؤلاء السلاطين والخلفاء الأحاديث الموضوعة ونسبوها لرسول الله لتثبيت سلطانهم والدعوة لحقهم فيها. وبهذا عكسوا أولويات التعاليم والمفاهيم الاساسية للإسلام، بحيث جعلوا القيم الاخلاقية ومبادئ الاسلام من وراء العمل السياسي .. بينما في الاصل ان تصدر المواقف السياسية والنشاط السياسي عن المبادئ الاخلاقية وقيم الاسلام العامة.
وهناك نقاط لا بد من توضيحها:
1- من المعروف أن الأنظمة الغربية عامة والولايات المتحدة الامريكية خاصة تقيم مراكز للأبحاث والدراسات في جميع حقول المعرفة، حتى ان علم المستقبلFuturism قد تطور هناك بشكل كبير، لوضع الخطط بعيدة المدى في المجالات المتعددة والسياسية منها بشكل خاص .. فهي لا تصدر عن اعتباطية وعفوية، وهي تتصرف سياسيا بمقتضى اسس وبرامج مدروسة ومعدة بشكل جيد.
2- من المعروف كذلك ان التقدم الصناعي والتكنولوجي وتطوره بعتمد على توفير تقنيات عالية الكفاءة، وتحتاج الى قدرات علمية متفوقة، وعلى توفير ورصد الميزانيات الكبيرة للبحث العلمي التي تعتمدها سياسة الدولة.
3- وتحتاج كذلك لتوفير عناصر الطاقة، وعصب هذه الطاقة هو البترول.
4- وبما ان التنافس الصناعي والاقتصادي القائم بين الدول الصناعية هو على أشده، فإن كلا منها لا يسعى فقط لتوفير الطاقة اللازمة لتسيير مشاريعه الصناعية، بل يطمح للعمل على احتكار مصادر الطاقة لكي يستطيع حسم الموضوع الصناعي لصالحه.
5- وبما ان غالبية احتياط النفط في العالم موجودة في البلدان الاسلامية، وبما ان هذه البلاد والدول هي الحلقة الضعيفة على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري، فإن ذلك يثير شهية احتلالها من قبل القوى العظمى، خاصة مع غياب رادع القوة لدى هذه البلدان. وكذلك غياب الحد الادنى من التنسيق السياسي والاقتصادي بينها.
6- فإذا كانت مبادئ عصبة الأمم قد خوّلت الدول الاستعمارية الغربية حق الوصاية على الشعوب "المتخلفة" بحجة مساعدتها في مجال الادارة والتقدم حتى تتمكن من حكم نفسها بنفسها .. ففي مقابل ذلك فقد جاء ميثاق الأمم المتحدة يحفظ استقلال الدول ويضمن حق تقرير المصير للشعوب المستعمرة. ويحظر بشدة استخدام القوة لحل النزاعات بين الدول فضلا عن استعمال القوة لبسط النفوذ وفرض الهيمنة والسيطرة او احتلال الدول الاخرى.
7- وهكذا فقد شكل ميثاق الامم المتحدة الى حد ما حماية الدول الضعيفة من امكانية اجتياحها من قبل القوى الكبرى، الا بالاحتيال والالتفاف حول القانون الدولي، وقد ساد ما يسمى بالعلاقات الدولية في ظل الحرب الباردة وتوازن القوى الدولي بين المعسكر الشرقي والرأسمالي الغربي. وبعد انهيار المنظومة الاشتراكية، وحلف وارسو، وتفرد الولايات المتحدة كقوة عالمية وحيدة القطب برسم السياسة الدولية على مذاقها وبمقتضى احتياجاتها .. انتقلت مما يمكن ان نطلق عليه مرحلة سياسة القوة الى مرحلة غرور القوة، او بتعبير آخر انسياب فائض القوة لديها من غير ضوابط او قيود، وبلا حدود، خاصة في غياب فيتو قوي.
ولكي تتاح الفرصة لغرور القوة ان تنساب في المنطقة العربية والاسلامية فلا بد من وجود او ايجاد انحدار يُسهّل عملية الانسياب هذه، فكان لا بدّ من كلمة سر تخترق بواسطتها ضمير العالم، من غير ان توقظه او امكانية تضليله وخداعه، ومن ثم احتلاله. فكان العمل على توفير غطاء قانوني، فقامت الولايات المتحدة بحمل الامم المتحدة على اعتماد مبدأ حق التدخل للمجتمع الدولي اذا انتهكت دولة ما حقوق الانسان من مواطنيها .. وبما ان حقوق الانسان منتهكة فقط في البلاد العربية والاسلامية حسب التصور الأمريكي، فكان تدخل الأمم المتحدة من اجل فصل مقاطعة تيمور الشرقية ذات الأغلبية المسيحية عن جسم الدولة الاندونيسية المسلمة. وتجري اليوم محاولة فصل جنوب السودان، وكذل الصحراء الغربية، وبعث الامازيغية في شمال افريقيا، والكردية في الشرق الاوسط ... وغيرها.
كما يبدو ايضا ان رقة المشاعر الاستعمارية لا يحتمل تعرض الشعوب العربية والاسلامية لتجبر وغطرسة واستبداد أنظمتها الدكتاتورية – كأن الاستعمار ليس هو الذي جاء بهذه الأنظمة– ولهذا فإن حقوق الانسان تملي على الاستعمار التدخل من اجل توفير الحماية للمواطنين. ومن اجل دمقرطتهم لا بدّ من احتلال بلادهم.!!
ولكي تحتل الولايات المتحدة مصادر النفط في شبه الجزيرة العربية، وبطلب من حكومات هذه الدول لكي تقيم لها معسكرات ومستوطنات تستوعب آلاف الجنود والخبراء وعائلاتهم فوق اراضيها .. من أجل كل ذلك كان لا بد أن "يحتل العراق الكويت".
وحتى تحتل الولايات المتحدة مصادر النفط في العراق وبحر قزوين والدول الاسلامية المجاورة، كان لا بدّ ان يغزو "الاسلام الجهادي" الولايات المتحدة .. حتى تملك هذه الاخيرة حق الدفاع عن النفس، فتحتل افغانستان، وتقيم لها قواعد في العديد من الدول المجاورة. ومن ثم احتلال العراق واسقاط غيرها من الأنظمة العربية بحجة ملاحقة "دولة القاعدة" العظمى، والتي أصبحت بقدرة الاستعمار قوة "عالمية" تشكل القطب الثاني .!! هذه القاعدة العظمى التي استطاعت انتاج وابداع دولة عظمى تنتقل بخفاء بارع، منقطع النظير، دولة القاعدة كالجن، قد تساكن الدول من غير ان يشعر بها أحد، لعلّ زعيم القاعدة استطاع اكتشاف بعدا خامسا يخفي به دولته.!! او لعل دولة طالبان أبدعت نموذجا لدولة تبثها عن طريق الموجات الكهرو-مغناطيسية .. لولا هذه الدرجة من التقدم لما استطاع شيخ القاعدة ان يخترق كل الدفاعات الامريكية ليفاجئها في كل من نيويورك وواشنطن، لما استطاع ان يدمر البنتاغون، مقر قيادة الجيش الأمريكي، أكبر جيش في الأرض اليوم وأقواه ... وعلى مثل هذه النغمات والايقاعات يسير القطيع العالمي خلف الولايات المتحدة. لقد لعب الاعلام الامريكي بعقل الانسان، حتى أنساه أبسط قواعد المنطق حتى انساه طرق التفكير والبحث .. حتى السؤال الذي ينبغي ان يُسأل، ليس هناك من يجرؤ على سؤاله ..
كم كنا ساذجين، عندما لم نصدق ان هناك "إسلاما امريكيا" و"اسلاما بيرطانيا" و"اسلاما صهيونيا" أجل لقد أثبتت الحوادث والوقائع ان هناك نسخا عديدة من هذا الاسلام: "الاسلام الجهادي" و"الاسلام السياسي" كلها نسخ مذيلة بتوقيع الشيطان الاستعماري. هذا الشيطان منذ مئات السنين وهو ينتج نسخا من "ذلك الإسلام" يغمر بها أسواق البشر .. على امتداد تاريخهم. منذ عبد الله بن سبأ لم يفتا الشيطان ينتج نماذجا من هذا الاسلام اليهودي والأمريكي والفلسطيني والمصري والسعودي والايراني الى غير ذلك مما لا نستطيع عدّه او حصره .. ومعذرة مرة أخرى فليس ما نقصد اليه هنا هو نقد الاختلاف والاجتهاد الفقهي او الحركة الجدلية للفقه المتغير بمقتضى تغير الظروف .. هذا الفقه الذي يواكب حركة المعاني المتنزلة في نطاق النص، وهو غاية في الصحة والدقة ولكننا نقصد ونرمي الى بيان أمرين غاية في الخطورة على مستقبل الاسلام ومعانيه وقيمه ومفاهيمه:
1- لا ينبغي ان يؤخذ الاسلام كتراث وتقاليد، فتتحول بذلك قيم الاسلام ومبادئه الى عادات وتقاليد مصرية وفلسطينية او ايرانية ... وغير ذلك نتعبد بها ونحن نظن اننا نقيم الاسلام في واقع

אין תגובות:

הוסף רשומת תגובה