יום רביעי, 28 ביולי 2010

حياتنا.
2- النماذج الاسلامية التي شكلها ويشكلها أعداء الأمة على شكل جماعات كلٌّ منها يحمل فكرا خاصا يلصقه بالاسلام، وأخطر هذه الاشكال: "الاسلام الجهادي" و"الاسلام السياسي" وغيرها من هذه النماذج التي يصادفها المسلم في حياته اليومية، وخطورتها على ثلاثة أصعدة.
1:2 إعطاء نظرة سلبية عن الاسلام ومفاهيمه في المجتمعات الغير اسلامية مما يعيق تقدم الدعوة في تلك المجتمعات ويجعلها اكثر صعوبة.
2:2 خلق بلبلة وارتباك داخل المجتمعات الاسلامية ذاتها، حين تزخر مجتمعاتهم بمثل هذه النماذج المتعددة التي لا حصر لها، حتى قد اصاب اليأس الكثيرين من امكانية قيام مجتمع مسلم يتخلق بأخلاق وقيم الاسلام الصحيحة.
3:2 استخدام هذه الجماعات من قبل اعداء الأمة وتوظيفها في صراعاتهم المحلية والاقليمية والدولية ضد البلدان الاسلامية وكذلك ضد الاسلام ذاته. ومعذرة مرة أخرى، لأن التنبيه لمثل هذه المخاطر الناتجة عن مفاهيم فاسدة ومنحرفة للإسلام، قد أعدت كتابتها مرات ومرات بقوالب لغوية متعددة، وكلها تتحدث عن ثلاثة امور غاية في الخطورة والاهمية:
الأول: ينبغي ان يكون الاسلام قيمته في ذاته. وأن نحييه في نفوسنا وقلوبنا وعقولنا أفكارا وقضايا وأحداث .. نحييه قيما وأخلاقا ومفاهيم .. نجييه عقيدة ودينا. وان نعتقد ان هذا القرآن الكريم وآياته في تنزل مستمر لا يتوقف حتى تقوم الساعة، ونقصد بالتنزل المستمر، هي حركة المعاني وحيويتها داخل النص والتي تستوعب المتغيرات الحياتية من ظرف لآخر وإذا كنا نعتقد ان الله، سبحانه، لا يحده الزمان والمكان. فإن كلامه وتعاليمه حاضرة دائما، بهذا المعنى فهي ليست تقاليد وأعراف وعادات.تقع في حدود ظرفية الزمان والمكان.
الثاني: لا ينبغي بشكل من الاشكال إحلال الأشخاص مكان الأفكار والقضايا والعقائد. حتى نميز بشكل واضح وقاطع بين الإلهي وبين البشري. واتخاذ القرآن العظيم، كتاب الله، المحفوظ من عند الله، والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، مرجعا ومصدرا وحيدا لتشريعنا، بكونه المرجع الوحيد الذي تجمع عليه الامة، وتؤمن بعصمته وقداسته، وأن تعتبر السنة هي تطبيق الرسول، صلى الله عليه وسلم لتعاليم هذا القرآن العظيم. وهي شارحة له ولا تنسخه، وصحيح الحديث هو ما جاء مطابقا لما في القرآن الكريم .. واعتبار الحديث والاجماع والقياس هي أدوات فقهية نستنبط بها الأحكام الشرعية من القرآن الكريم. وبهذا علينا ان نميز بوضوح:
الثاني 1: صفة الرسول في حالة تلقيه عن الله، سبحانه وتعالى، وتبليغ دين الله، والرسول في هذه الحالة قد عصمه الله، سبحانه من الخطأ، فهو معصوم بالوحي الذي أنزله وينزله الله، سبحانه عليه.
الثاني 2: محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بكونه سياسيا ورئيس دولة، وقائدا وقاضيا، وكان في كل هذه الامور مجتهدا في رؤية الوقائع والحوادث وكان ينزل على استشارة اصحابه في هذه الأمور، ويغير موقفه ورأيه استجابة لطبيعة الشورى، باعتبار ان ذلك يحتاج الى منطق الدولة ومؤسساتها في ان تدير امورها الحياتية بموجب اجتهادات القائمين عليها، كما حدث لرسول الله في كثير من الامور. كما حدث يوم بدر ويوم أحد والخندق ... وغيرها، وكما حدث وهو يقضي بين الناس فهو ينفي عن شخصه الكريم العصمة ومعرفة بواطن الامور والنوايا، وإنما يأخذ الامور بعللها الظاهرية، كما في حديثه، صلى الله عليه وسلم: حين قال في حديث أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه سمع خصومه بباب حجرته فخرج اليهم فقال: "إنما انا بشر، وأنه يأتيني الخصم، فلعل بعضكم ان يكون أبلغ من بعض، فأحسب أنه صدق، فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو يتركها".(1) وهذا جاء ليجلو الشك، فهو كقاض وحاكم انما هو بشر، تمييزا له عن الالهي المعصوم ..
الثاني 3: وضع الرسول الشخصي، ومع ان خلقه القرآن، إلا أنه في حياته الشخصية لا يدعي العصمة كما في حادث "تأبير النخل" وغيرها.
الثالث: ان لا تتحول الحوادث التاريخية، مهما كانت عظيمة او مؤلمة الى تشريع نتعبد به، ونقيم سلوكنا تبعا له، او الى هموم تسيطر على قضايانا وحاضرنا فتبعث فينا مشاعر الكراهية والحقد والبغضاء والتي يعاد انتاجها باستمرار سنة بعد سنة منذ ما يقارب الفا واربعمائة سنة، هذه الحوادث التاريخية سواء كانت صائبة او مخطئة ان بعثها في حياة الأمة لتعيشها هموما لا يزيد الأمة إلا فرقة وتمزيقا. كما هو حاصل بين ما يطلق عليه الشيعة والسنة .. فليس من مؤمن في الأمة لا يكن الود والحب والتقدير والتبجيل لعلي ابن ابي طالب ولآل بيت الرسول، ولكن ان نعيد انتاج كربلاء في كل عام حتى اصبحت طقوسا ومناسك، وليس من قتلة الحسين وآل البيت من يعيش اليوم حتى نثأر منهم .. حتى اصبحت هذه الأمور وكأنها موجهة الى فئات من المسلمين اليوم، ممن يجلون آل البيت وليس لهم أدنى دور فيما حدث .. ولهذا ينبغي للحدث التاريخي ان يبقى في نطاق العبرة والتقييم ولا يتجاوزه ليصبح هما حاضرا يعيق وحدة الأمة وتعاونها.
متى كان "الاسلام الجهادي" مصلحة يهودية؟
هناك طرف واحد من بني البشر له مصلحة سياسية في الحرب على المسلمين وهي الصهيونية العالمية، وهي ثلاة فروع:
1) الصهيونية اليهودية:-
الحركة الصهيونية التي جاء تشكلها، تحت هذا الأسم، كصاحبة مشروع سياسي استعماري استيطاني، كان متزامنا مع تشكل العديد من الحركات والتيارات القومية والسياسية اليسارية في اوروبا والشرق الأوسط. بل ان العديد من هذه التشكيلات هي من هندسة وإنتاج اليهود .. خاصة تلك الحركات القومية والطائفية والماسونية التي انتشرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في بلدان الشرق الأوسط. وكلها كانت حركات تحارب الاسلام وعقيدة المسلمين المتمثلة سياسيا بالدولة العثمانية، بصفتها دولة الخلافة.
والحركة الصهيونية كحركة سياسية علمانية يهودية، هي في حقيقتها "اليهودية السياسية" او تسييس اليهودية ذات الأطماع الاستيطانية الكولونيالية في الشرق الأوسط بإقتطاع أجزاء منه لإقامة دولة لليهود في هذه المنطقة .. اليهود الاشكناز الاوروبيين بالدرجة الاولى. لأن اليهود القاطنين في العالم العربي لم تكن لديهم مشاكل مع العرب والمسلمين طيلة تاريخهم. وبهذا فالحركة الصهيونية صاحبة مصلحة في حربها وتأليبها قوى عالمية ضد الاسلام والمسلمين.
وليس هذا معرض الحديث بإسهاب عن الصهيونية، وإنما علينا ان نميز اليوم بين ثلاث تيارات في الصهيونية العامة الغير مضافة (اليهودية) كمحاولة لتشكل مفاهيم سياسية لها تأثير واضح في العمل السياسي الاقليمي في الشرق الأوسط:
1- الصهيونية الكلاسيكية وهي صهيونية التيار المركزي والتي هيمنت مفاهيمها وأيديولوجيتها منذ عام 1882 وحتى سقوط سلطة حزب العمل في انتخابات عام 1977، ففي هذا العام خسرت الصهيونية الكلاسيكية مواقعها امام حركة أشد تعصبا وانعزالية وهذه النزعة أطلق عليها "النزعة التصحيحية" او التنقيحية والصهيونية الكلاسيكية ظلت مخلصة لفكرة "أرض اسرائيل الكبرى" منذ عام 1922. ورغم هزائمها في الانتخابات البرلمانية ولرآسة الحكومة في عدة مرات إلا أنها ظلت تمثل التيار المركزي الايديولوجي الأساسي للمركز السياسي في إسرائيل وكذلك للنخب السياسية في البلاد".(2) هذا التيار شكل البرنامج الايديولوجي للإسرائيليين الذين تولوا إدارة المفاوضات في اوسلو عام 1993 وما زال تأثير هذا المفهوم الصهيوني على صياغة المواقف الاسرائيلية الراهنة إزاء التسوية الدائمة مع الفلسطينين.
2- يكمن التحدي الجاد الذي يواجه الصهيونية الكلاسيكية في تيار جديد هو "الصهيونية الجديدة المتشكلة من اليمين الاسرائيلي والذي يمثل فهما أصوليا متعصبا وتفسيرا متطرفا وعنيفا للصهيونية. وقد تحولت الصهيونية الجديدة الى قوة ذات شأن بعد حرب 1967 مدعومة بغريزة التوسع الاقليمي من قبل جهات في حزب "العمل" وأحلام زعماء الليكود حول ارض اسرائيل الكبرى واضافة الى أفكار توراتية لحاخامات متنفذة في المحافل الدينية"(3). فإن برنامج جوبوتنسكي ما زال هو المعتمد عند اليمين الاسرائيلي المتمثل في الليكود .. وقد نشط هذا التيار في سنوات الثمانين من القرن الماضي (العشرين) ووسع تأثيره في صفوف المتطرفين ذوي النزعة التوسعية .. وليست مؤتمرات هيرتسيليا وموضوع المناعة القومية إلا تكريسا لهذه المفاهيم الصهيونية المتعصبة.
3- ما بعد الصهيونية: وقد تحدى هذا التيار المواقف الاساسية للصهيونية وقدّم بحوثا أكاديمية انتقد فيها السياسة الصهيونية منذ عام 1882 وخاصة حرب 1948، وهذا التيار خرج عن الرواية المألوفة للصهيونية في علاقتها مع العرب عامة والفلسطينيين بشكل خاص. وقد قبل هذا التيار بعض الإدعاءات الفلسطينية فيما يتعلق بتاريخ هذه البلاد. وقد أدرك هذا التيار من "المؤرخين الجدد" وبعض النقاد الاجتماعيين وشخصيات اخرى ان "هناك صلة وثيقة بين الصهيونية منذ بداية طريقها كحركة استعمارية، وبين سلوكها في العام 1948 كحركة اثنية استولت على البلاد (فلسطين) وطردت سكانها الأصليين .. وقد تبنت مؤسسات التعليم والاعلام الاسرائيلية جزءا ضئيلا من استنتاجات هذا النقد وأدخلت بناء عليه تغييرات على الطريقة التي تعرض فيها الماضي، والى حد ما الحاضر للواقع اليهودي والصهيوني في اسرائيل".(4)
وبمصطلحات سياسية فقد تحدى تيار "ما بعد الصهيونية" التيار الصهيوني المركزي فيما يتعلق بفهم الماضي، وتفسيره للحاضر ورؤيته للمستقبل، فقد توصل هذا التيار الى رؤيا مستقبلية للدولة كدولة مدنية غير يهودية في اسرائيل، باعتبار ذلك الحل الامثل لمشكلاتها الداخلية والخارجية، ومنهم من دعا لإقامة دولة ثنائية القومية او دولة علمانية ديمقراطية واحدة(5) .. هذه المواقف السياسية جعلت تيار "ما بعد الصهيونية" في موقع الحليف للاقلية الفلسطينية في دولة اسرائيل .. علاوة على ذلك، فإن هذا التحالف يشكل الفرصة الوحيدة لتحول تيار "ما بعد الصهيونية" الى قوة سياسة ذات شأن، وغياب هذا التحالف حتى اليوم قد أفشل هذا التيار من أن يتحول الى مشروع تحد سياسي او ان يتحول الى خيار قوي وواسع امام الجمهور الاسرائيلي.(6)
وقد استطاع "المؤرخين الجدد" نقض ثلاث مسلمات اساسية مرتبطة بحرب 1948 وهي:
1- لم يكن الوجود اليهودي في فلسطين عام 1948 يواجه خطر فناء حقيقي. ولم يعان من ضعف عسكري في مواجهة القوة العربية مجتمعة، بل ابدى تفوقا عسكريا. إضافة الى ذلك "فقد انحسر خطر تهديد الاستيطان اليهودي، إثر التحالف الذي عقد قبل الحرب بين إمارة شرقي الأردن وبين الوكالة اليهودية بشأن تقسيم فلسطين الانتدابية وهو تحالف نصّ على عدم قيام دولة فلسطينية عن طريق ضم الضفة الغربية الى شرق الأردن وعلى ألا يهاجم الجيش الأردني الدولة اليهودية".(7)
2- الاسطورة الثانية التي انهارت هي تلك التي زعمت ان الفلسطينيين قد هربوا من فلسطين بإرادتهم وبناءً على طلبات زعمائهم. وحسب ما تقوله أبحاث "المؤرخين الجدد" فإن الكثيرين من الفلسطينيين قد طردوا وأجبروا على الرحيل. ومن بين هؤلاء المؤرخين الجدد ومنهم د. إيلان بابيه يقولون إن الطرد كان جزءا من مخطط شامل للطرد. بينما يرى آخرون ومن بينهم المؤرخ بني موريس أن الطرد نشأ خلال وبسبب الحرب.
3- الأسطورة الثالثة تزعم أن اسرائيل مدت يدها للسلام بينما العرب قد رفضوا ذلك. ولكن "المؤرخين الجدد" قد أكدوا استعداد العالم العربي والزعامة الفلسطينية للتفاوض على اساس قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة 1947 وقرار 194 الذي يطالب بعودة اللاجئين. غير ان الحكومة الاسرائيلية رفضت المشاركة في مثل هذه المفاوضات.
هل الانتفاضة مصلحة صهيونية؟ كما كان الأمر في استمرار الصراع الاسرائيلي العربي وما زال مصلحة صهيونية اسرائيلية؟!!!
يرى ايلان بايه "بمفاهيم سوسيولوجية أولية، يمكن القول ان الصهيونية الجديدة تغذت من الصلة الواضحة بين انخفاض التوتر الخارجي وارتفاع وتيرة التوترات الداخلية"(8). بينما يؤكد توم سيجيف ان هناك امرا غريبا قد وقع، بينما كانت الأجواء العام (ما بعد الصهيونية) تتبلور وتأخذ طريقها في الحيز الواسع من الجدل في المجتمع الاسرائيلي، حدث شيء غريب، يكاد يكون مبتسرا، وهي الحاجة الى الوقوف مجددا امام أسئلة مصيرية، بدت للكثيرين انها تعود للماضي .. "إسرائيل ما زالت في طريقها الى وضع "ما بعد الصهيونية" إلا ان الانتفاضة، كما لو أعادت الدولة الى الرحم الصهيوني الذي خرجت منه الى الدنيا .. وما يزال الفلسطينيون بعيدين عن امتلاك نفس قدرة اسرائيليين كثيرين على تخليص أنفسهم من داخل الايديولوجيا التي وجهتهم في بداية طريقهم. وبقدر ما يصعّدون من نضالهم ضد المدنيين بقدر ما يفرضون على اسرائيل العودة الى جذورها الصهيونية. "الصهيونية ستنتصر" قالت لافتات الشوارع الكبيرة التي علقتها الوكالة اليهودية في أرجاء البلاد في الانتخابات البرلمانية الأخيرة"!!!(9)
هناك من يعتقد ان تأجيل اثارة الصراع على تعريف هوية اسرائيل سببه الحرب بين العرب والفلسطينيين من جهة وبين اسرائيل من جهة أخرى .. ويقول تومي سيجيف: "وبنظرة للوراء يبدو ان الحرب الثقافية الاسرائيلية تشتد بالقدر الذي يتصاعد فيه الاحساس بالأمن لدى الاسرائيليين، وقد حدث ذلك بعد ما خيل ان العملية التي بدأتها في اتفاق السلام مع مصر ستؤدي الى سلام مع الفلسطينيين .. وكثيرا ما تقف المخاوف من حرب ثقافية داخلية في المجتمع الاسرائيلي على تشكيل الهوية الجديدة التي قد تتبلور نتيجة لها مواقف اسرائيلية معارضة للسلام، أو على الأقل الخوف منه. لقد كبحت الانتفاضة الجديدة الحرب الثقافية، ودارت معركة الانتخابات لرئاسة الحكومة في الأساس حول مستقبل العلاقات مع الفلسطينيين وحو دولة يهودية أكثر صهيونية".(10)
وكما ان تعريف من هو اليهودي صعب، فإن تعريف من هو الصهيوني أصعب. لعل العرب والعلمانيين اليهود في نظر اليهودية المتدينة ما هم إلا "حمار المسيح" . ليس من السهولة الإتفاق على صيغة بما يخص كثيرا من التعريفات، اليهودي، الصهيوني، دولة يهودية ديمقراطية، يهودية ليبرالية ديمقراطية، إثنية ديمقراطية، ويرى بعض الكتاب اليهود ان التوفيق بين هذه التعابير كمن يحاول "تربيع الدائرة".
ويرى الفيلسوف اليهودي الراحل شموئيل هوغو بيرغمان، بأن هناك "شعبي اسرائيل" ويوضح بيرغمان: "يوجد في اليهودية منذ الأزل تياران متصارعان معا في مجابهة مستمرة: تيار انفصالي، يكره الاغيار، وينمّي عقدة "عمليق"* فيؤكد في كل فرصة: "تذكر ما فعله بك عمليق". وهناك يهودية اخرى تتميز عندي بالآية "وأحببت لغيرك كما لنفسك". هذه هي اليهودية التي تصلي من اجل ان تتمكن من نسيان "عمليق" هذه يهودية تقوم على الحب والتسامح.
ومهما أثار سؤالي من حرج وارتباك لي ولغيري فلن أتردد عن طرحه سواءً أثار جدلا أم مرت به الاحداث من غير اكتراث: هل كانت زيارة شارون لباحة الأقصى المبارك استدراجا لما لحقها من حوادث؟ لماذا روّج لزيارته في وسائل الاعلام قبل اسبوعين من موعد الزيارة؟ ولماذا رافقته هذه القوة العسكرية الكبيرة؟ ولماذا لم تحاول الحكومة الاسرائيلية ثنيه عن عزمه ولو بطرق التفاهم والاقناع؟ لماذا تعاملت السلطات الاسرائيلية – حكومة العمل بقيادة باراك – مع الجماهير العربية بهذه القسوة؟
من يعرف الطريقة الاسرائيلية في التعامل مع القضايا السياسية، ومن يعرف تصرف الصهيونية في المحافظة على سيطرتها لا تربكه هذه الأسئلة ...
وإذا كانت المقدمات توحي بصياغة محددة للنتائج المترتبة عليها فسوف تثور أسئلة من نوع آخر: من هو الذي استطاع توظيف إنتفاضة الأقصى سياسيا وأيديولوجيا؟ وكيف استفاد قادة الأقلية العربية من مظاهرات هذه الاقلية ومن دم الشهداء الذي سال؟ لقد تعمّقت روح الانفصالية بين هذه الأقلية وبين المجتمع اليهودي .. هل من مصلحة عربية من وراء ذلك؟ أحدثت هذه ______________
* عمليق هو نسبة الى العمالقة الذين لاحقوا اليهود وهم في التيه، وهو كناية عن الذي يبغض اليهود ومن بينهم هامان.
المظاهرات ردة فعل عنيفة في القطاع اليهودي، حتى توارى في خضمها صوت اليسار اليهودي ومعسكر السلام وغيرها من التيارات التي كانت تتعاطف مع الحقوق العربية .. هل خدم ذلك قضية المساواة كمطلب اساسي وملح لهذه الأقلية؟
أما على الجانب الاسرائيلي اليهودي فقد قام نشاط مكثف في اتجاهات عديدة لتوظيف الانتفاضة منذ أيامها الاولى، وكأنها كانت على موعد معها:-
1- نجح الاعلام الرسمي، بل الاعلام اليهودي في التشكيك بموضوع المواطنة للأقلية العربية وأن توجه هذه الأقلية غير جاد وغير مخلص في قضية المواطنة.
2- انتهزت السلطات الاسرائيلية هذا الجو والمناخ في تحرير حزمة من القوانين العنصرية ضد الأقلية العربية. هذه القوانين التي تؤثر تأثيرا سلبيا على مستقبل هذه الأقلية، بخلق ظروف صعبة وخيارات أصعب أمام هذه الأقلية.
3- نشطت على الفور المؤتمرات والندوات لدراسة الخطر الديمغرافي على الدولة وهويتها الصهيونية اليهودية. وقدمت الدراسات الأكاديمية التي تنذر بهذا الخطر الكامن في الدولة .. وكان أهمها مؤتمرات هيرتسليا التي تضم قادة ومسؤولين يهود على اعلى المستويا، السياسية والاقتصادية، والأمنية والثقافية من رؤساء الحكومات الاسرائيلية من يسارها الى يمينها الى محاضرين في الجامعات وعسكريين وغير ذلك، كلها تفكر في ايجاد الحلول ومعالجة هذا الخطر تحت عنوان "ميزان المناعة والأمن القومي".
4- انتشرت واتسعت الأصوات التي تنادي بتهجير قسري للعرب، فبعد أن كان كهانا وأشخاص قليلون وقليلون جدا ينادون بمبدأ تهجير العرب قد أصبح هذا الصوت يخرج عن مسؤولين، بل لقد أصبح واحد من كل ثلاثة في المجتمع اليهودي ينادي بوجوب تهجير العرب من اسرائيل.
5- تراجعت بشكل كبير اسرائيلية الدولة، لصالح الصهيونية في نسختها المتعصبة والمتشددة .. وأصبحت هذه المؤتمرات ترى دور الصهيونية الحاسم في صياغة قرار الدولة ودور الدولة كآلية صهيونية .. الأمر الذي طغى على السياسة الاسرائيلية خاصة بما يتعلق بالأقلية العربية. ومع تدفق التيار الصهيوني المتطرف فقد تراجع ما كان يدعى تيار "ما بعد الصهيونية" وتحجّم بشكل كبير تأثير تيار المؤرخين الجدد.
واذا كان العالم العربي برمته يسعى لينهي الصراع العربي الاسرائيلي بسرعة بتنازلات سخية، لم يحلم بها اليهود فيما مضى .. وكأن هذا الصراع يثقل كاهل الواقع العربي، بل أصبح كابوسا وهاجسا. لقد استسلم الكثير من الدول العربية وبسرعة حتى لم ينتظروا توقيع مراسيم استسلام مقبول. إذا وجد استسلام كهذا؟11 ولكن الغريب ان الصهيونية والسياسيين الاسرائيليين لا يبدون رغبة وحماسا حتى لقبول استسلام العرب ... لماذا يحدث ذلك؟ لأن في الصراع مع العرب مصلحة اسرائيلية، مصلحة صهيونية، مصلحة يهودية ..!
في عام 1973 كنت في سيمنار مع دكتور شيفار من قسم العلوم السياسية في موضوع "النزاعات والصراعات داخل المؤسسة والنظام وبين الأنظمة". في اللقاء الأول قال د. شيفار: أنا أعلم بأن الكثير من بينكم يرغبون فيما لو وجد حل للصراع العربي اليهودي الاسرائيلي بسرعة. ولكني سأخرج هذه الفرضية من عقولكم في الجزء الأول من هذا السيمنار وسوف أثبت لكم فرضيتي التي تقول علينا ان نعايش هذا الصراع. من وجهة نظر المحاضر الذي يمثل التيار المركزي في السياسة الاسرائيلية الصهيونية فهناك فائدة كبيرة من استمرار هذا الصراع:
1- يساعد على صهر الثقافات المتنوعة للمهاجرين اليهود، ويبقي نقاط الخلاف والتباين الاجتماعي والثقافي مؤجلا حتى يحله تفاوت الزمان .. واستمرار الخوف على المستقبل يؤجل هذه الصراعات الداخلية.
2- يبقى المجتمع متحفزا ومتوترا في تناوله لقضاياه ويبقي على هيمنة الصهيونية الاشكنازية.
3- يجعل الدولة بحاجة دائمة لمساعدة الصهيونية العالمية ودعمها المادي والسياسي.
4- الإبقاء على صورة اليهودي "الضحية" لعدوانية الآخر، خاصة عندما يكون هذا الآخر أنظمة ديكتاتورية قمعية. فيثير عطف العالم ومساعدته.
وفي مقابل ذلك لو كان عند العرب مشروعا جديا لنهضتهم، فليس هناك عامل أكثر من الصراع والخوف على المستقبل يذيب الفوارق والاختلافات ويظهر الانسجام والتوافق وهم أولى ألف مرة من غيرهم بإيجاد هذا الظرف وقد رأينا وسوف نرى كيف أن الغرب الاستعماري بعد انهيار الاتحاد السوفييتي يفتش عن عدو وهمي يصارعه لكي يبقى على حالة التحفز والتوتر .. "الارهاب الاسلامي" ..!!


الصهيونية المسيحية:
ليس بين الاسلام والمسيحية كديانتين اي صراع، بل ان الشرق هو مهد الاسلام والمسيحية واليهودية. وموقف الاسلام والقرآن الكريم من المسيحية موقف تفاهم وتعاون يشهد على ذلك تاريخ طويل عريض يمتد مئات السنين، وهذا التعاون أثمر حضارة ومدنية مشتركة من الصعب إن لم يكن من العسير تجاوزها .. فهي علاقات تعاون وتفاهم تراكمية تجمعها عناصر الحضارة ومركباتها بلغتها وتاريخها ونسيجها القومي. ولكن الصهيونية المسيحية، هي حركة يهودية تتلبّس المسيحية لتشويه تلك العلاقة، ولتجنيد العالم الاستعماري الغربي ضد المسلمين ليحاربوا عن "اليهودية السياسية" حربها ضد المسلمين، لأن الاسلام واليهودية دينان متعايشان.
في مقال للقس رياض جرجور، الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط، يقول فيه: "سواءً كانت "مسيحية صهيونية" أم هي "صهيونية امريكية" تتخذ من مسيحية هجينة وغريبة عن التراثات المسيحية الأصلية غطاء دينيا لا تضفي به شرعية على سياستها المشبوهة .. ويقال في تعريق الصهيونية المسيحية على أنها: الدعم "المسيحي للصهيونية" ... ويعتبر الصهيونيون المسيحيون أنفسهم كمدافعين عن الشعب اليهودي وخاصة "دولة اسرائيل" .. ويعرف "والتر ريغنز – الأمين العام لما يسمى "السفارة المسيحية الدولية" ومركزها القدس – المسيحية الصهيونية بطريقة سياسية، اي مسيحي يدعم الهدف الصهيوني لدولة اسرائيل..".(11)
كان نشوء الصهيونية المسيحية، وكما نعرفها اليوم في انجلترا في القرن السابع عشر حيث تمّ ربطها بالسياسة. وتصورها إقامة دولة يهودية تتميما – حسب زعمها – لما جاء في الكتاب المقدس، ثم انتقلت في مرحلة تالية الى الولايات المتحدة الامريكية حيث أخذت أبعادا سياسية واضحة وثابتة كما أخذت بعدا دوليا ..

الجذور التاريخية للصهيونية المسيحية:
ومع ان الصهيونية المسيحية هي ايديولوجيا دينية "رؤيوية" لكنها قد ترجع الى المئة الاولى للمسيحية ويسمى بتيار الألفية Millenarianism وهو معتقد ديني نشأ في اواسط المسيحيين الذين هم من أصل يهودي وظلوا على اعتقادهم بالمشيحية الزمنية او المسيحانية وهو اعتقاد ان المسيح سيعود الى هذا العالم محاطا بالقديسين وستنزل معه اورشليم السماوية وسيحكم في العالم الف سنة .. وقد وقفوا موقفا معاديا لروما وللبابوية وللكثلكة .. ونرى الحركات الألفية تنضوي بكثرة تحت لواء الحملات الصليبية .."(12) وقد أجرت هذه الحركات بعض التعديلات في عقائدها منها:
- استعمال العبرية لغة للصلاة في الكنائس.
- نقل ذكرى يوم قيام المسيح – عليه السلام، من يوم الأحد الى يوم السبت اليهودي.
- مطالبة الحكومة البريطانية بأن تعلن التوراة اي العهد القديم دستورا لبريطانيا.
- وفي عام 1588 طالبوا بريطانيا بإعادة اليهود الى الاراضي المقدسة تتميما لنبوؤة الكتاب المقدس.
- وكذلك دعوا بريطانيا عام 1615 بدعم عودة اليهود الى فلسطين.
- وفي عام 1655 عقد مؤتمر تم فيه ربط المصالح البريطانية الاستراتيجية بالصهيونية المسيحية.
وتركز هذه الطائفة على التعريف بالأصول اليهودية للايمان المسيحي لدرجة تبدو فيها المسيحية وكأنها إحدى الطوائف اليهودية ..
ويضاف لهذه الطائفة "الصهيونية المسيحية" بعض الطوائف البروتستينية المتعصبة والتي تقع تحت تأثير الصهيونية العالمية بشكل مباشر او غير مباشر، وهي صاحبة نفوذ كبير في الولايات المتحدة، وهذا التأثير آخذا بالازدياد يوما بعد يوم خاصة في صياغتها للسياسة الخارجية المناهضة للعرب والمسلمين.
هذا يدل على تغلغل اليهودية في الكيان الغربي بأساليب متعددة وكذلك على تأثيرها الواسع في رسم سياسة الغرب خاصة بما يخص العالم العربي والاسلامي.
3) الصهيونية العربية:
كما سبق ان رأينا كيف تلبس اليهود على الاوروبيين والأمريكيين، فإن لهم دور شبيه عند العرب والمسلمين .. هذه الجماعات العرقية والطائفية التي يغذيها الاستعمار الغربي والصهيونية المبثوثة في طول العالم العربي والاسلامي قد تمّ تجنيدها من قبل الاستعمار الغربي والاستعمار الصهيوني .. ويضاف اليها تلك الجماعات الاسلامية المتطرفة التي شكلها الاستعمار والصهيونية ويرعاها من اجل ان يستخدمها في تنفيذ مخططاته وبرامجه. وهي أخطر تلك الجماعات على العالم الاسلامي والعربي، حيث تقوم بمهمات متنوعة في طول العالم وعرضه، ويظل نشاطها في المحصلة النهائية هي إعاقة العمل الاسلامي والعربي الصحيح في داخل الوطن وخارجه .. ويمكن تحديد نشاطها على اكثر من قناة:
1:3 تخريب العلاقات الاجتماعية والسياسية وتمزيق النسيج الوطني والقومي والاسلامي بإنتهاجها أسلوبا متطرفا في تعاملها مع الآخر سواءً كان هذا الآخر من المسلمين او من غيرهم. وهذا الفهم الغريب والممارسة الخاطئة لمبادئ الاسلام وتحويله من دين رحمة ومحبة وتسامح الى دين قتل وعنف وارهاب.
2:3 تصدير صورة مشوهة عن الاسلام داخل الوطن وخارجه، داخل الوطن لكي يصيب اليأس والاحباط كل هؤلاء الذين يطمحون بقيام مجتمع اسلامي وفي الخارج في تنفير الناس من دعوة الاسلام.
3:3 القيام بأعمال ارهابية انتقامية من غير توفير القدرة الكافية للنكاية بالعدو او توفير اسباب القوة والنصر، حتى تعطي المبرر للدول الطامعة ذات المصلحة بشن حروب على البلدان العربية والاسلامية. بحيث تستدعي هذه الدول ضد الاسلام والمسلمين .. وكذلك تخريب شبكة العلاقات بين بعض الدول الحليفة للعرب والمسلمين كالصين وروسيا وغيرها من دول شرق وجنوب آسيا.
4:3 إن صياغة الخطاب الاسلامي على هذا الشكل التحريضي، واعتماد ثقافة العنف مع الآخر (المسلم وغير المسلم) وإقحام مفاهيم غريبة عن تعاليم الاسلام ومبادئه، تجعل المرء يظن ان وراء هذا الخطاب وصياغته على هذا النحو جهات متربصة بالمسلمين، تريد تهيئة المناخ المناسب لحروبها واعتدائاتها على البلدان العربية والاسلامية.
من هنا نرى أن بعض هذه الجماعات المتطرفة لا يستبعد ان يتمّ تشكيلها من قبل "المسيحية الصهيونية" او "الصهيونية اليهودية" تحت أسماء اسلامية وعربية يتم تجنيدها وتوظيفها في المشروع الاستعماري المتكامل.
من الحقائق المعلومة التي تحاول اوساط عربية واسلامية ان تبقى مجهولة، خاصة هؤلاء المفكرين والباحثين، الذين تجندهم اليهودية والأمريكية ليعملوا ضمن مراكز للدراسات والأبحاث التابعة لبعض المؤسسات التي تديرها المخابرات المركزية والمنتشرة في طول العالم وعرضه .. هذه المعاهد والمراكز التي تبحث في حقول المعرفة المختلفة، وتقوم بإعداد دراسات محددة عن الوطن العربي والاسلامي ليخدم بالتالي متخذي القرار في البيت الأبيض. بل يمكن استخدام هؤلاء كمراصد متقدمة تنقل كل تغيير فكري وثقافي وسياسي يحصل في البلاد، حتى يتم احتوائها والتعامل معها قبل استفحالها او الانحراف بها. كما ان تلك الجماعات من الباحثين الاكاديميين قد تعمل على بعث أفكار خاطئة تتشكل من حولها جماعات مغفلة من بين المسلمين والعرب، فتتبنى هذه الأفكار، وتعمل بوحي منها، فتسيء الى نفسها والى شعوبها .. وهذه الدوائر هي التي تغذي مجموعات وتشكيلات تلك الجماعات المتطرفة، التي تعتمد بعض النصوص الاسلامية وتبترها عن سياقها وتشدُّها الى اقصى حدود المغالاة والتطرف .. هذه التشكيلات يلجأ اليها العدو لكي يؤثر على ميزان التوازن الاجتماعي والسياسي والثقافي، وقواه الفاعلة، حتى يستطيع السيطرة على حركة المجتمع في الاتجاهات التي يريدها ويخطط لها .. بين القديم والحديث .. بين الفقراء والاغنياء .. بين المتدينين وغيرالمتدينين .. بين الرجال والنساء .. بين الطوائف الدينية المختلفة والمجموعات العرقية المتناثرة في العالم .. يغذي التيار اليساري العلماني ضد التيار المحافظ وبالعكس، ويغذي الجماعات الاسلامية في مواجهة التنظيمات القومية مرة وهكذا .. الأمر الذي يجعل قوة الوسط والمركز مهددة من قبل هذه التيارات المتطرفة والمغالية التي تمنع من المركز الحركة المتوازية والمدروسة.
مثل هذه التشكيلات الاسلامية والقومية المتطرفة التي تعدّها وتنتجها المؤسسات التابعة لدوائر متخذي القرار في الولايات المتحدة او في الحركة الصهيونية، هي التي يوكل اليها القيام بأعمال على شاكلة ما حدث يوم 11 ايلول 2001 في نيويورك وواشنطن .. إذا كان هناك ممن نفذوا هذه العمليات شخصيات اسلامية وعربية فهي شخصيات مبرمجة برمجة امريكية صهيونية بالكامل .. ليس هناك عاقل، يملك ذرة من عقل يمكن ان يسمح لنفسه ان يفكر ان نظام طالبان ومجموعات القاعدة تستطيع ان تنفذ عمليات بهذه الدقة، وبهذه الوسائل التقنية، وبهذه الإدارة المحكمة .. اذا كان حدث شيء من ذلك فلم تكن القاعدة غير آليات استخدمها هؤلاء الذين لهم مصلحة في اعلان الحرب على الاسلام والمسلمين .. واعترافات بن لادن، وكذلك الرسائل التي كان يبعث بها من وقت لاآخر تحمل اسمه وتوقيعه، إن صحت ولم تلفق فإنها تضعه في مركز التهمة المباشرة. بل ينبغي للتهمة ان تلاحقة الى اكثر من ذلك، ينبغي ان تلاحقه وتنخر في عظامه حتى تصل الى نوعية الجينات التي يتركب منها .. ينبغي لهذه الأمة ان يرقى عقلها وضميرها الى مستوى الاحداث التي تمر بها او تكاد تعصف بها وبمستقبلها .. ينبغي ان تتخلص من العقلية الصبيانية المراهقة. هل باتت الحماقة والغباء من مركبات الشخصية العربية والاسلامية؟ الى متى ستبقى هذه الأمة مستغفلة؟ متى ستنهي عقود توظيفها عند الآخر؟ الى متى ستبقى تتعامل مع ميزان الأصالة في النضال والكفاح على النحو التالي: كلما شتم المرؤ الاستعمار أكثر، كلما كان مناضلا أكبر واصدق .. وكلما شتم الصهيونية اكثر كلما كان وطنيا اكثر وكان اسلاميا أصدق وأتقى. حتى أصبحت الشتائم والمسبات ادبيات اسلامية وعربية حداثوية كما حدث لأحد رؤساء البلديات في الضفة الغربية، بلدية كبيرة، عندما انخفضت شعبيته بين قومه راح يستنجد السلطات الاسرائيلية لتقوم بسجنه، ولما فعلت ظن المستوطنون صدق ذلك، فقاموا بعد ان خرج من الاعتقال بمحاولة اغتياله!!
قال لي ذات يوم عامل بسيط من قريتي، كان يعمل في القطاع اليهودي في ذكرى أحد أيام يوم الأرض، طلب منه المسؤول اليهودي ان يحضر للعمل، قال العامل غدا هو يوم الأرض، ولا استطيع الحضور، هناك اضراب في الوسط العربي فالناس يمنعون السيارات التي تخرج للعمل. قال اليهودي انا احضر بسيارتي وآتي بك. قال العامل قد يعتدي الناس على سيارتك، أجاب اليهودي لا تخف سوف أفتح شبابيك السيارة، وأهتف بأعلى صوتي: "فلسطين بلادنا .. كلابنا" حتى نخرج من القرية انا وانت، ولن نخسر شيئا فتعمل وتنتج ثم تعود بسلام .. أجل ألم يكن ذلك هو الهتاف الفلسطيني قبل قيام دولة اسرائيل.؟ كم هي الحكايات التي كنا نسمعها من أهلنا المسنين، عن عناصر يهودية كانت تحارب في جيش انقاذ فلسطين عام 1948 .. كنا نسمع عن الشخص الموكل بمدفع الهاون المرابط بالليات الى الغرب من مجد الكروم – بوابة الشاغور الغربية – على انه كان يهوديا، فلا نصدق ذلك الشيخ المسن (أحد أعمامي) عندما حضر ضابط يهودي بعد احتلال قرية كابول بعد فترة والتقى بذلك المسن ففاجأه قائلا: كان الطعام الذي أحضرته لحامية الليات (البوابة الغربية لقرى الشاغور) لذيذا، ولما تفرس بوجهه العجوز المسن عرف أنه "المدفعجي" ... وحادثة أخرى رواها لي احد شباب الناصرة المسيحيين، وقد كان متطوعا فيما سمي بجيش "ابو محمود" قال: بعد ان احتل اليهود الناصرة، كان هناك منعا للتجول. قبضوا على اخيه الصغير يلعب مع رفاقه من حي اللاتين، فخرج ليرى ما جرى لأخيه فاقتادوه للتحقيق، وهناك يفاجأ عندما يرى ان الذي يحقق معه ليس غير الشيخ يحيى الذي كان يأم فرقة ابو محمود في الصلاة .!! ضابط اسرائيلي يصلي إماما بالمجاهدين الأبطال..! ضابط يهودي يصلي إمام بفرقة من جيش إنقاذ فلسطين..! لربما هو الآخر كان يكثر من هتاف: "فلسطين بلادنا ... كلابنا" ..!!
لم تتوفر لدي الجرأة على كتابة هذه الحوادث ولا اقول النوادر، التي سمعتها منذ فترة طويلة، حتى قرأت الكتب العبرية التي تصدر بين وقت وآخر تبحث في مثل هذه المواضيع، من بينها:
1- الاسلام والعوالم المندمجة فيه – مجموعة مقالات اكاديمية في ذكرى وفاة البرفسورة حافا لستروس يافا – طبع عام 2002 – الجامعة العبرية بالقدس .. انظر مقال: "هل كان مربي جنكيز خان يهوديا؟" ..(12)
2- المستعربين الأوائل – قصة الدائرة العربية في منظمة البلماح (المستعربين الاوائل) اكتوبر 2002 اصدار وزارة الدفاع الاسرائيلية.
3- היהודים בתרבות הרינסאנס באיטליה (اليهود في النهضة الايطالية).
الأمر الآخر المماثل الذي يظهر اسلوب ومنهجية تعامل اليهود في المجتمعات التي كانوا يعيشون فيها كأقليات يتمثل بدور اليهود في النهضة الايطالية.(14)
والأمر الثالث الذي سأكتب فيه وأبين أن الاسلوب ذاته ما زال متبعا حتى اليوم ما يشكفه كتاب "المستعربين الأوائل" الذي يبحث في قضية ونشاط "الدائرة العربية في البلماح" أحدى الفصائل الصهيونية قبل قيام الدولة اليهودية. والذي قامت بنشره وزارة الدفاع الاسرائيلية مؤخرا، بعد مرور خمسين عاما على حوادث الكتاب. وسوف أقوم بترجمة بعض المقاطع من هذا الكتاب، للتعرف على منهجية العمل اليهودي عبر القرون. مما يشير ويؤكد على ان اليهودية تنساب في الفكر البشري انسياب الدم في عروق الانسان.
" ... كان هذا درسًا بليغًا في علم الاستعراب (انتحال شخصية العربي) في مدخل سوق الحمدية في دمشق قد تجمهرت مجموعة من الشبان، وقد انفجرت ضاحكة لمنظر الحوراني الذي ساقته قدماه لهذا السوق (وحوران منطقة تقع في جنوب سوريا) الحوراني المسكين بملابسه الرثة البالية الممزقة، والذي انحنى بوجهه في مواجهة آلة التصوير لصاحبها الأرمني، حيث طلب الحوراني ان يتصور من اجل الحصول على هوية سورية .. بينما االمصور ومجموعة الشباب من حوله منهمكون في الفكاهة والتسلية منتهزين فرصة وجود هذا الحوراني .. فطلب اليه المصور ان ينفخ اوداجه وهو في مواجهة الكاميرا. وفي قمة هذا المشهد الهزلي قام المصور بتسليم صور فتاة جميلة للحوراني "المسكين" ظنا من المصور الأرمني ورفاقه السوريين ان هذا الحوراني لا يفرق بين صورته وصورة الفتاة الجميلة، لأنه في اعتقادهم لم ينظر قط الى وجهه في مرآة .. وخلال الضحك المرتفع غادر الحوراني "المسكين" المكان، فصاح به المصور وأعطاه صوره الحقيقية، وعندما نظر الحوراني في صوره صرخ انه يريد صوره الاصلية (صورة الفتاة) وبعد ان تشاجر مع المصور، أحضروا له مرآة ليقارن بين صوره وبين وجهه، حتى اقتنع بذلك، وحمل صوره ومضى على خجل واستحياء. ذاك الحوراني "المسكين" الذي لم يكن في واقع الأمر غير يروحام كوهين اليهودي المستعرب الذي قدم الى دمشق للحصول على هوية سورية .. كان هؤلاء الفتية الأغرار يضحكون من "الحوراني المسكين" الذي جاء ليضحك على وطن بكامله. وهو ينجح في إخفاء نفسه بشكل يثير الاعجاب. كان هؤلاء الفتية الاغرار في حقيقة الامر هم ضحية يورحام كوهين .. وقد كانت ضحيته الثانية في اليوم نفسه قائده يغئال آلون والذي حضر ليأخذه في نقطة متفق عليها في جنوب دمشق. ولم يستطع آلون في التعرف عليه من خلال ملابسه الرثة البالية ..!! ومع انه لم يكن من رجال "الدائرة السورية" في المخابرات الاسرائيلية، فقد اصاب هذا النجاح في مهمته.(15)
لقد كان على المستعرب ان يظهر في المجتمع العربي على انه عربي في كل شيء بالاضافة الى شكله الخارجي، عليه ان يتقن العيش كعربي في حياته اليومية وان يتمرس في الطبيعة العربية وتقاليدها وفي دينها، وكذلك في موضوعي التاريخ والجغرافيا. وعليه ان يتقن التاريخ الاسلامي من عصر الجاهلية وحتى يومنا هذا، وكذلك تاريخ فلسطين من الفتح الاسلامي وحتى اليوم. بما فيها حركة التحرر العربي بشكل عام وفي فلسطين بشكل خاص. وعليه ان يتخلق ويعمل يمقتضى التقاليد العربية من حيث اللباس والحركات ... البيت العربي في الريف كما هو في المدينة .. والسوق والشارع والقهاوي، الآداب والأيْمان (القسم) والشتائم، الأعياد، عادة الأخذ بالثأر الى غير ذلك ... كان عليه ان يعرف كل شيء عن العرب، ان يعيش معهم يشتري من السوق العربية، ويجلس في المقهى العربي والمطعم والذهاب الى المسجد. الى جانب ذلك كان يتعلم فنون القتال العسكرية وغيرها ... في زمن الانتداب البريطاني كان مسجد الجرينه في حيفا يعتبر"مكان اختبار واعداد" للمستعربين حيث كانوا يداومون على الصلاة فيه خاصة صلاة الجمعة.(16)
* "في النصف الثاني من عام 1944 انتقلت دائرة المستعربين من الجولات والدوريات القصيرة، الى جولات طويلة في القرى العربية، إقامة لعدة شهور .. ثم زراعة المستعرب لفترة زمنية طويلة شملت السكنى والعمل داخل القرية العربية، من اجل تكوين محطة ثابتة ومستمرة للعمل ومن اجل استيعاب اعضاءا جددا ... في عام 1945 زرع مستعربون بأماكن عمل مشتركة للعرب واليهود ..
** في مرات كثيرة كان المستعربون يزاولون أعمالا حرة، فتح دكان لشغل التنك او بائع متجول، او بويجي (دهان نعال) او "ملمع أحذية" ومنهم من كان يعمل مصلح بوابير (بريموس) او بائع أسكيمو .. على المستعرب ان يكون ممثلا بارعا. يمثل اربع وعشرين ساعة .. كان المستعربون يبدأون اعمالهم بعد ان يتقنوا تاهيلهم الديني، تاريخ الاسلام، مبادئ الاسلام كالصلوات والعادات والأعياد الاسلامية .. وكانوا الى جانب ذلك يحفظون الأغاني يُغنون لأم كلثوم، وفريد الاطرش، وعبد الوهاب وغيرهم .. كانوا يتقنون الدبكة، ويقيمون من وقت لآخر حفلات ساهرة فيها الاغنية والدبكة .. كان على راس هؤلاء المستعربين – الشخصية اليهودية والشهيرة يغئال الون، الذي رضع من أم عربية من قرية عين ماهل قرب الناصرة.(17)
أحد هؤلاء المستعربين الأوائل كان يعقوب كوهين، والذي ارسل للعمل مع الحوارنة في ميناء حيفا يقول:(18) "لقد عملت مع الحوارنة في ظروف عمل قاسية، لأن الاعتبارات في تلك الآونة ان على العربي ان يكون: قذر ووسخ وحوراني. ويبصقون عليه. وقد امتلأ السوق بهؤلاء الحوارنة الذين قدموا من جنوب سوريا. وكان على يعقوب كوهين ان يظهر كفلسطيني من مواليد يافا. وقد جاء ومعه توصية لأبي حوشي اليهودي، سكرتير مجلس عمال حيفا يومها، ان يشغله في الميناء شغل يدوي في السوق السوداء. وحتى ابو حوشي ظن انه عربي .. وقد عمل هذا المستعرب تحت إدارة مدير عمل عربي من نابلس. وكان يتقاضى أجرا زهيدا كالحوراني سواء بسواء. كان في المساء يجلس وينام على ارض الرصيف بين مجموعات الحوارنة .. ويتناول طعام العشاء فول مصري .. وينام بين الحوارنة .. لقد كانوا في البداية ينامون في دكان سمك بروائحه الكريهة .. وفي كل تلك الفترة لم يغتسل. وعندما طلب ان ينتقل من هذا الدكان، وأن يعطى قليلا من المال ليتمكن من أكل وجبة معقولة قوبل طلبه من قبل مسؤوليه بالرفض القاطع ... بينما شم طوب ويوسف الصوص قضوا فترة أطول ما يزيد عن تسعة أشهر وهم يحملون على اكتافهم صناديق كبيرة ويتجولون في شوارع يافا – وتل ابيب يعملون بتصليح "البريموسات" .. يصيحون وينادون "معمّر" الى حين ان سألهم أحد العرب من سكان يافا "هل أنتم من الشام؟ فأجابوا نعم، نصحهم ان لا يقولوا "معمر" بل عليهم ان يستعملوا لغة أهل يافا "مصلح بريموسات" .. ثم استأجر لهم غرفة هناك عملوا فيها سنة كاملة. ثم انتقلوا للعمل مع مستعربين آخرين في شرق الاردن، في مكان فيه آلاف العمال العرب من حوران والاردن والسعودية .. بعضهم كان يعمل في تنظيف الأرض من الحجارة وعمل جدران من الحجارة (سناسل) وكان ينام العديد من هؤلاء العمال في خيمة واحدة .. تنتشر منها روائح كريهة وقد كثرت فيها البراغيث ... وفي بعض الأوقات كان يستدعى المستعرب دهّان من قبل العمال ليصلي فيهم ويقرأ القرآن على المرضى. وكان يكتب لهم رسائل الى أهلهم .. هذه كانت أوقات اعداد للمستعرب ليقوم بجمع المعلومات وايصالها للمسؤولين .. حتى لقد طلب بعض المستعربين الانضمام للجيش الاردني"..(19)
المستعرب جميل – كما كان يسميه يغئال ألون – (جمليئيل كوهين) استطاع تأسيس ورشة لصناعة الحلويات .. وعندما شك مراسل صحيفة الشرق اللبنانية في انه يهودي يمني انتحل إسما عربيا هو (يوسف الحامد) يتمشى في جنوب بيروت ويحاول ان يقيم ورشة عمل .. يقول جمليئيل كوهين (يوسف الحامد) أظهرت أنني غير مكترث وغير مهتم بهذا التحقيق الصحفي. وقد أخبر جيرانه بالذي كان بينه وبين مراسل صحيفة الشرق .. فتبرع العرب الأقحاح بتقديم النصائح الى جمليئيل كوهين، اذا سئلت في المستقبل من أنت؟ قل لهم تعالوا معي الى المسجد حتى نصلي حتى تتأكدون أنني مسلم .. ولكن جمليئيل حتى هنا يعطيهم درسا في الاخلاص والصدق.!! "أنا أذهب للمسجد من اجل كسب رضا الله فقط، وليس لكي أبرهن شيئا ما لأحد".(20)
ويروي لنا جمليئيل كوهين (يوسف الحامد) عندما شاع خبر استشهاد المجاهد عبد القادر الحسيني في معركة القسطل، أخذ الناس يبيعون صوره من دكان الى دكان، فما كان من جمليئيل إلا ان علق صورة عبد القادر الحسيني في صدر دكانه ويبعث للمسؤول عنه رسالة يصف فيها شعوره وهو يتلقى خبر استشهاد عبد القادر الحسيني يقول جملئيل كوهين: "عينان تدمعان وقلبي يضحك"(21) يا ليت شعري كم من الزعماء العرب اليوم يبكون على هزائم العرب وقلوبهم تضحك!!!!؟
جملئيل كوهن (يوسف الحامد) كان عضوا فاعلا ونشيطا في الحزب القومي السوري (انظر الصور 265-257 حيث يشاهد أنطون سعادة قائد الحزب القومي السوري وهو يخطب الجماهير ويحرضها على الثورة ويوسف الحامد الى جانبه (جملئيل كوهين)).
وقد كانت مهمة وحدة الفجر (هشاحر) العمل داخل التجمعات والاراضي العربية في اسرائيل وفي البلدان العربية، او في أي بلد آخر فيه تجمعات عربية. من أجل الحصول على معلومات ميدانية، استراتيجية وسياسية وتنفيذ أعمال قتل وتخريب .. وقد تمّ تشكيل ما يزيد عن 31 وحدة منتشرة في جميع الدول العربية وبعض الدول الاوروبية والولايات المتحدة الامريكية ضمن مجموعات وحدة هشاحر (الفجر) والتي اقيمت قبل قيام دولة اسرائيل بعدة سنوات. ففي فلسطين وحدها كانت تعمل وحدات في كل من (جنين، نابلس، طول كرم، رام الله، القدس العربية، اريحا، بيت لحم، الخليل، قطاع غزة) ما يزيد عن تسعة وحدات في زمن الانتداب البريطاني وقبل قيام الدولة اليهودية. وكذلك في الدول العربية كانت تعمل وحدة في دمشق وأخرى في حلب، وفي لبنان واحدة في بيروت وثانية في طرابلس، ووحدة في عمان وثلاث وحدات في العراق في البصرة وبغداد والموصل، واربع وحدات في مصر إثنتان في القاهرة وواحدة في الاسكندرية ورابعة في بور سعيد، وكذلك واحدة في ليبيا واخرى بتونس والجزائر والمغرب، وكذلك في بلدان يوجد بها جاليات عربية مثل: تركيا، ايطاليا، فرنسا، انجلترا، الولايات المتحدة، كندا، البرازيل، مكسيك وغيرها.(22)
عندما قررت السلطات الاسرائيلية اغتيال رياض الصلح في لبنان أوكلت العملية لأحد رجال الوحدة المستعربة المزروعة في لبنان، وهذا الأمر كان ضد رأي يعقوبه (مسؤول الوحدة اللبنانية) وكان يرى ان منفذ عملية الاغتيال ينبغي ان لا يكون احد أعضاء الوحدة الموجودين في المكان، وانما على يد رجل آخر والذي يأتي لتنفيذ العملية والرجوع الى البلاد فور نهايتها.(23)


مات ودفن كعربي:
في الرابع من أيار عام 1949 عبر بوابة مندلباوم في القدس رجلان بلباس رث وسط جمهور من مئات الأسرى الفلسطينيين والأردنيين الى المملكة الاردنية الهاشمية، لم يكن هذان الرجلان أسرى، وانما كانا أفرايم أفرايم ويعقوب بقاعي عميلان في "الدائرة العربية للمخابرات الاسرائيلية" والذين عبروا الأردن بصفتهم أسرى حرب، جاءوا من "سجون العدو الصهيوني" بهدف إقامة شبكة جاسوسية في عمان .. وهناك من نقطة في بيت مهجور تمّ رصد حركتهما ضابط المخابرات يعقوب نمرودي، وضابط العمليات برنس جوردون. حتى اختفت آثارهما ضمن جماهير اسرى الحرب العرب. وهذه هي المرة الأخيرة التي شوهد بها يعقوب بقاعي حيا".(24) هذه الخلية كانت تعمل لإستيعاب المزيد من المستعربين التي كانت مهمتها جمع معلومات عسكرية وسياسية، اقتصادية استراتيجية، وكذلك القيام بعمليات تخريبية مثل اغتيال مواطنين معينين او قتل جماهيري".(25)
كان هؤلاء المستعربين عليهم اتقان اللغة العربية وبعض آدابها وحفظ بعض سور القرآن الكريم غيبا، تعلم كيفية الصلاة، وكان يتضمن فترة التدريبات المكوث وقت طويل كسجناء مع مساجين عرب .. وكان عليهم ان يتقنوا الأغاني الشعبية .. فيعقوب بقاعي كان يحمل اسما عربيا هو "نجيب ابراهيم حمودة" عربي من حيفا .. وقد كان يتم تجنيد المستعربين بعد ان يعيشوا فترة كأسرى حرب في السجون الاسرائيلية، حتى يخرجون وهم يحملون أوسمة وطنية، حتى تقبلهم الدول العربية من غير تحريات او تحقيقات.(26)
حتى طرق اتصالهم كانت احيانا من خلال برنامج "رسائل اللاجئين الى ذويهم في الأرض المحتلة" او عن طريق صحيفة النصر الصادرة في عمان .. وكذلك فإن قيادة هشاحر (الفجر) كانت تتصل بهؤلاء المستعربين عن طريق برنامج إذاعي يبث من دار الاذاعة الاسرائيلية موجه الى اللاجئين في الدول العربية .. وقد كان في اوقات الطوارئ يتسلل رجال الوحدة مع المتسللين العرب عن طريق اللطرون او طريق ام الفحم، او من جهة لبنان .. وأحيانا كان يقبض على رجال وحدة المستعربين فتعصب عيونهم ويتم ادخالهم الى سجن الرملة – مثلا بضرب وشتائم يدخلون مع المساجين العرب ومتسللين من لبنان والاردن .. حتى ان السجانين اليهود لم يكونوا يعلمون بهوية هؤلاء المستعربين. وكم من مرة كانوا يعانون من علاقة قاسية يتخللها الشتائم والمسبات والضرب والتحقير من قبل السجانين اليهود .. وكل اسبوع كانوا يقتادون بحجة التحقيق ويذهبون لمقابلة المسؤولين عنهم ليفحصوا تكيفهم وتأقلمهم مع المساجين العرب .. ثم كان يتم نقلهم الى سجن الصرفند ليقضوا أشهرا طويلة قبل ان يتم خروجهم الى الاردن. كانت تبعثهم ادارة السجن للاشغال الشاقة كتعزيل الحجارة وقلع الاعشاب ولم يسمح لهم بالذهاب الى التنظيف في معسكرات الجيش، حتى لا يكتشف امرهم الجنود .. وكانوا يعشون على كسرة خبز مع قليل من المربى حتى العشاء. وكم من مرة كان الاسرى العرب يدعونهم ليسمعوا منهم الأغاني العربية المختلفة.(27)
عندما انتهت فترة تدريبهم في السجن عبر هؤلاء المستعربين بوابة مندلباوم في القدس مع 450 سجين اصطفوا في طوابير طويلة حتى يتم نسجيلهم كلاجئين خرجوا من سجون العدو .. وقد تمّ إخلاء 80 أسيرا في ذلك اليوم كان من بينهم بعض المستعربين، ولشدة اهتمام السلطات الاسرائيلية بهم فقد أخبر بن غوريون شخصيا بخروجهم .. وقد تمّ تسجيلهم وتسلموا بطاقة لاجئ تحمل اسمه مع ملاحظة، انه كان أسيرا في سجون اليهود".(28) وموقعة من قبل عبد الله التل قائد القوات الاردنية في القدس .. وهكذا فإن هذه البطاقة كانت تساعد في دخول عمان، ومن ثم الحصول على جواز سفر اردني بعد ثلاثة ايام من وصوله الى عمان ..

كلمات مضيئة:
ليس الغرض من تسجيل هذه الوقائع والقصص، التي مضى عليها ما يزيد عن ستين عاما .. او مئة عام او الف عام، لكي نتسلى بها ونلهو بها، وتثير فينا الدهشة والاستغراب .. او لكي تزيد من خيالنا الاسطوري كيف يمكن ان يحدث هذا؟ وحول هذه القدرة العجيبة في التستر على الذات والتلبس على الآخر .. ولكن ما يهمنا حقا هو إدراك واستيعاب ثم تعقل هذا المنهج، الذي يتعامل به خصوم الأمة العربية والاسلامية، ليس فقط قبل ستين سنة او مئة سنة او الف، إنما هو نمط من التفكير والاعتقاد والتصرف، يؤكد نفسه جيلا بعد جيل، وقرنا في إثر قرن، وينتقل من ظرف ليحتل ظرفا آخر يشغله ويتحرك من خلاله ... نريد ان نتعقل هذه القدرة التي تجري في المجتمعات وتنساب فيها كما يجري الدم في عروق الانسان ..! نورد ذلك لكي يحاول السذج من الجماهير العربية والاسلامية، تحريك قواهم العقلية، وتنشيطها حتى تدرك ان الأصالة والحقيقة والواقع شيء، وأن كيل المديح لها والثناء عليها وتلبّسها من الخارج والتستر بها شيء آخر. على الأمة ان تميز بين الحق والعدل والصدق والاخلاص كقيم يتحدث عنها الناس ويتلبسون بها مدحا وثناء لها، وبين من يعتمدها ويلتزمها منهجا وسلوكا وعقيدة في واقع حياته وتصرفاته ..
وبتعبير آخر، لا يكفي المسلم حتى يكون مسلما حقا ان يتكلم ويمدح ويثني على قيم الاسلام ومثله ومبادئه .. بل ينبغي ان يعيشها فكرا وعقيدة تعبدا وسلوكا .. لا يكفي ان نهتف للقومية العربية ونحمل شعاراتها، بينما لا نحاول تطبيق مبدإ واحد يضيف لها قوة وعزة وتمكينا .. لا يكفي ان يشتم الانسان اعداء الاسلام، وأعداء القومية العربية حتى يحصل على شهادة انتماء لهذا الاسلام ولهذه القومية العربية .. لا يكفي وطنيتنا حتى تكون صادقة ان نردد كالببغاء: "فلسطين بلادنا .... كلابنا" ... قد رأينا كيف يُعدّ المستعربون .. يعملون بين العرب بالأعمال الشاقة، ويتعرضون للضرب والاهانة، ثم يدخلون السجون ويهانون ويُذلون أكثر مما يذل العرب أنفسهم من السجانين اليهود .. وفي نهاية الفصل التمثيلي بدفعون بهم مع افواج المعتقلين والمسجونين .. فهي حصانة لهم تمنعهم من الوقوف للمسائلة، او التحري عليهم او ملاحقة الشبهة حولهم ... هذا يحدث على مستوى زعامتنا وقادتنا حيث تـُفصل على مقياسنا وتصاغ لنا صياغة قومية مرة واسلامية مرات ومرات .. من أجل ذلك تضيق قيادتنا السياسية وكذلك الثقافية والدينية ذرعا بالسؤال، وتحاول ان تمنعه، ومن اجل ذلك تضيق ذرعا بالأبحاث والدراسات والتحريات إلا ما كان من تمجيدها وخلع المواقف الوهمية عليها ومن حولها .. لأن مع كل سؤال تثور إجابة قد تكون صحيحة مقنعة وقد تثير أسئلة أخرى، ومع كل تدقيق وتمحيص وتحقيق يحصل تعرية للحقيقة من جانب او جوانب .. وليس هناك سلاحا أمضى من السؤال والبحث في كشف وتعرية الزيف والتضليل، وجلاء الغامض وما استغلق من امور .. وفي المجتمعات التي تبيح السؤال وتشرّع للبحث والتدقيق لا تتكرر قصة رئيس البلدية الذي استنجد بالسلطات الاسرائيلية لكي تسارع الى اعتقاله، لتدني شعبيته وتبخر وطنيته. فبادرت هذه السلطات لاعتقاله مدة ولما أفرجت عنه وضع له المستوطنون شحنة ناسفة ذهبت معها بعض أطرافه ....!!!



منطق الفرد والجماعة ومنطق الأمة والدولة:
محمد رسول الله أم أسامة بن لادن أيهما أحق أن يتبع؟
اذا كان المنطق هو مجموعة الاحكام التي يلجأ اليها الانسان لكي يضبط نشاطه الذهني، حتى تخرج على شكل منظومة فكرية ذات قواعد محددة وتخضع لبعض الأحكام والقوانين العقلية العامة المتعارف عليها، فهذا لا يعني بشكل من الأشكال، ان هناك منطقا واحدا لكل الظروف والأحوال .. فالمنطق متغير ويرتبط تغيره بتغير الظروف والبيئات والأوساط، إذا أخذنا بعين الاعتبار كون العقل صفة او فعل ينفعل بالظروف والاحوال المتغيرة، وليس ماهية جوهرية صلبة لا تتأثر بما حولها.
هناك منطق للفرد، يضبط به تفكيره، ويتحكم بنمط نشاطه الذهني المتوقف على مدى فهمه لإمكانياته الظرفية المتغيرة في الجماعة التي يعيش معها او موقعة من جهاز الدولة التي تبسط نفوذها ومنطقها في محيطها .. كما ان هناك منطق للجماعة يخصها ويضبط حركتها ضمن ظرفية الوطن والأمة والدولة .. والى جانب هذا هناك منطق الدولة والمساحة التي يمنحها لها من الحركة ضمن منطق توازن القوى المحيط بها، وضمن المنطق الدولي الذي ينبغي ان يضبط الحركة العامة للدول .. وأوسع من منطق الدولة ويختلف عنه هو منطق الأمة التي قد تمتد لتشمل العديد من الدول .. ولهذا من الخطأ اعتبار منطق دقيق واحد لكل هؤلاء، حيث يمارس المنطق ذاته من قبل الأفراد والجماعات او الدول والأمم .. وعندما تختلط المفاهيم في هذا المجال فإن طرفا يبغي على طرف .. فالفرد الذي يفكر بمنطق الجماعة او الدولة هو استبداد بموقف الدولة كلها، واغتصاب لمساحة اكبر مما تطيق فرديته .. والعكس من ذلك عندما تفكر الدولة بمنطق الفرد، فهذا مؤشر ودليل على انها دولة تقوم على نظام مستبد، فردي، تخلو من الدوائر والمؤسسات الخاصة والعامة، وليس فيها سلطات الى جانب سلطان الفرد القاهر، الذي يتخذ منطق الفرد ليدير دفة النظام في دولة برمتها.
ولتوضيح ذلك سوف أسوق مثلين حيين ما زالت الأمة العربية والاسلامية تعيش آثار اسقاطاتهما حسرة وندامة وسيبقى آثار ذلك يؤثر سلبا على كل الأمة لأجيال قادمة تعاني منه في المستوى الديني والمستوى القومي.
مثال أسامة بن لادن:
لا شك ان الشيخ أسامة بن لادن، هو نموذج للعديد من الشيوخ والدعاة في اسلوب فهمه للإسلام ومنهج تعامله مع القضايا والأحداث. وكذلك سلك ويسلك ما يسمى تنظيم القاعدة بكونه جماعة من جماعات المسلمين الوافرة. وإذا جاء تفكيره مطابقا لمنطق الأمة او الدولة فهذا شيء يختلف عنه عندما يعتبر أن منطقه هو بديل لمنطق الأمة والدولة، وبهذا يسلب ويعتدي على حق هو ليس له. فيغتصب دور الأمة والدولة. وهذا اغتصاب بكل المفاهيم. فليس من حقه ان يعلن الحرب على احد يطول نتائجها الأمة كلها .. وأما حالة السلم فهي معيار قائم بذاته له ظروفه وأحواله الخاصة. وقس على ذلك امور كثيرة .. إن منطق الحزب والجماعة ان يظل ميدان حركتهما هو داخل الدولة وفي نطاق الأمة، وهذه المساحة قد تتيح له استثناءات محددة كأن يقيم علاقات حوار مع جماعات خارج حدود الدولة، لكن في المدى الذي لا يتعارض مع منطق وقانون الدولة. فلا يدخل معها في نشاط يتعارض او يتصادم مع مواقف ثابتة للدولة او الأمة. وعندما يتحرك بن لادن او القاعدة وكانه دولة أو أمة فإنه بهذا يكون قد وضع نفسه في خانة الأمة من حيث المسؤولية. وبهذا فإن الجماعة لا تتسع لرأي غير رأيه، ولا لقرار الى جانب قراره. وكذلك فإن جماعته التي اغتصب من الدولة والأمة كل شيء تصبح بموجب هذا الفهم وهذا المنطق مهيأة لكي تغتصب قرار الدولة ودور الأمة .. وهكذا فلا قرار لحركة الى جانب حركته وكانها تملك الحقيقة من دون غيرها من الناس. وكما سبق له ان اغتصب قرار جماعته وصادر ارادتهم، وبهذا المنطق يستبد بالتالي بقرار الدولة او الأمة .. وهذا هو قمة الاستبداد، وقمة الإكراه، وهو منطق فرعون وعقليته مغلفة برسومات إسلامية كاللحية والثوب الطويل والسبحة الى غير ذلك .. ولتوضيح هذه الحالة لا بد من التأكيد على امرين غاية في الأهمية، ولن يستقيم وضع الأمة وامرهما، ولن تسترد عافيتها وعافية أفرادها وجماعاتها بغير أخذهما بعين الاعتبار.
الاول: ان يتجاوز الفرد المسلم، ومن ثم الأمة بمجموعها حالة الأناخرونزم.(29) وتفسير ذلك هو ما عليه حال المسلم في وقتنا هذا، وفي وضع الأمة على وجه العموم. حيث ان كتاب الله، سبحانه، موجود بكامله بين أيدينا، تعاليمه أوامره ونواهيه، موجود بيننا كأفراد وجماعات وأمه. ولكن في الوقت ذاته ليس هناك مجتمعا مسلما يقيم بغالبيته تعاليم الاسلام في حياته العامة والخاصة. وكذلك فإن نظام الحكم المنبثق عن المجتمع بصورته الراهنة بغض النظر عن شرعيته ومصداقيته او عدمها. فهو لا يعتمد مفاهيم الاسلام وتعاليمه وقيمه في صلب نظامه السياسي او الثقافي .. وهنا يلتبس الأمر على الفرد وكذلك على الجماعة. خاصة عندما تختلط مفاهيم المنطق بين الفرد والجماعة والأمة والدولة ويغتصب بعضها وظائف بعض. ويختلط عليها كذلك تقييم الامور وفهمها .. فالقرآن الكريم بين يديه، ولا يستطيع تطبيق احكامه في واقع حياته، الأمر الذي يجعله يتصرف كفرد او جماعة وكانه في رأس النظام السياسي وقمة هرمه .. فيتوهم ان عليه ان يفرض احكام الاسلام وتعاليمه على حياته الخاصة وعلى مجتمعه، وبشكل تعسفي. فيختلط عليه مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويختلط عليه كذلك فهم حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، "من رأى منكم منكرا فليغيره: بيده او بلسانه او بقلبه وهو أضعف الايمان" ومع كون الحديث في غاية الوضوح، إلا أن الكثير من الدعاة والجمهور يستشكل ذلك ويستغلق على فهمه، وهو ان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمر بمرحلتين اثنتين:
الاول:1- الأمر بالمعروف، وهو مرحلة الدعوة وبيان تعاليم الاسلام وجماله وصدقه وأحقيته، بكشف موضوعاته وبيان حجته وبراهينه، في مواضيع الحق والخير والعدل .. والقرآن العظيم يعلمنا على لسان أنبياء الله أن هذه المرحلة هي مرحلة بيان منهج الرشد من الغي. والاكتفاء بدعوة الناس لاتباع منهج الخير والحق، من غير ان يكون له شرعية حمل الناس قسرا على ترك المنكر، بل ان هذه المرحلة تقتصر على دعوة الناس الى معروف الاسلام وقيمه ومثله، وتطبيق ذلك ومزاولته هو نفسه بتركه لفوضى الجاهلية وفسادها. وبهذا يصبح سلوكه وتصرفاته ومعاملاته ومواقفه دعوة بليغة بحد ذاتها .. في هذه المرحلة فإن الداعية غير مطالب، بل لا ينبغي له ان يفرض احكام الاسلام وحدوده خارج نطاق ذاته .. وعلى سبيل المثال: فإن الربا كحد من حدود الله، على الفرد في هذه المرحلة ان يجتنبه هو نفسه وليس عليه ان يذهب أبعد من ذلك، وكذلك الأمر بما يتعلق بغيره من الأحكام والحدود، فحدّ القذف والزنى لا يطبق بغياب المجتمع والنظام الاسلاميين. وإذا أخذنا القرآن الكريم بهذا الفهم فإن عقاب الجلد في حد الزنى، مثلا لا ينسخ آية: "واللتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهم اربعة منكم، فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوافهن الموت او يجعل الله لهن سبيلا" (النساء 15) لأن امكانية حدوث ظروف مشابهة لتلك الظروف التي نزلت فيها الآية قائمة في حياة الأفراد والجماعات. وما لم تستنفذ الظروف بالكامل، فلا ينبغي ان يتمّ النسخ قطعا.
الأول::- هي مرحلة النهي عن المنكر، وهي المرحلة التي يكون فيها المجتمع قد قبل بغالبيته تعاليم الاسلام وآمن بها واعتقدها منهجيا حياتيا واقعا. وقد أفرز هذا المجتمع نظاما يعتمد قيم الاسلام وأحكامه. في هذا الوقت يستطيع المجتمع ويحق للنظام الذي ينبثق عنه ان ينهى ويزجر كل من يعتدي ويتجاوز اعراف المجتمع وتقاليده ومفاهيمه وقيمه. مثله في ذلك كمثل الدولة التي تفرض أجهزة نظامها معاقبة الخارجين على قوانينها، المهددين لأمن النظام والمجتمع. وكما ان قوانين الدولة الديمقراطية لا تبيح نشاط التنظيمات التي تهدد اسس النظام الديمقراطي، كذلك من حق المجتمع المسلم ان يرعى تقاليده وقيمه واعرافه. لا سيما ونحن نعرف موقف الاسلام وسماحته، كما يرسمها كتاب الله مع المخالفين والمعارضين. وكذلك توافقه مع مفاهيم التعددية الدينية والثقافية ورعايته لها، كما سبق ان بينا .. وقد فسّر رسول الله ان النهي عن المنكر لا ينبغي ان يأتي بمنكر أعظم منه.
والموقف من المنكر فيه ثلاث حالات:
1- تغيير المكر باليد هي من وظيفة النظام والدولة التي ترعى الخارجين عن القيم والآداب العامة، وهي التي تملك حق اصدار الاحكام وإقامة الحدود.
2- وتغيير المنكر باللسان، هو واجب الدعوة عن طريق الحوار والاقناع والقبول والرضى، وهو ضمن منهج تربوي في توضيح القيم والفضائل من الرذائل .. وهذه المرحلة ينبغي ان تسبق مرحلة إقامة الحدود وتغيير المنكر باليد، وبتعبير أدق فإن التربية والاعلام ينبغي لهما ان يسبقا مرحلة النهي والتعزير وإقامة الحدود.
3- وأما إنكار المنكر بالقلب فيسبقه إقرار وتصديق للمعروف بالقلب ايضا وهذه مرحلة ينبغي لها ان تسبق مرحلة النهي عن المنكر بالحجة والدعوة والكلمة الطيبة، لأن مرحلة التصديق والايمان الذاتي والقناعة الشخصية هي المرتكز الأول في الدعوة، ولا يصح شيء في عالم الاسلام إلا بالايمان والتصديق الشخصي .. وهكذا يمر الاسلام بتعاليمه وأحكامه وحدوده بثلاث مراحل اساسية يرتكز بعضها على بعض كالبناء يشده بعضه بعضا:
- مرحلة الايمان والتصديق الشخصي بالاسلام ومبادئه وإقرار معروفه وإنكار منكره بالقلب.
- مرحلة الدعوة باللسان والبيان وإتمام الحجة بالمعروف والدعوة الى انكار المنكر. وهنا تقوم جماعة للمسلمين تحاول ان تقيم مجتمعا بمقتضى تعاليم الاسلام.
- المرحلة التي يفرز فيها المجتمع المسلم النظام والدولة التي ترعى القيم والأعراف وتأمر بالمعروف وتستعمل اليد في انكار المنكر ومنعه وتحريمه.
وهذا يعني ان على المسلمين افرادا وجماعات ان يعيشوا تعاليم الاسلام وقيمه وأخلاقياته من غير تطبيق حدوده وأحكامه في واقع حياتهم العامة. طالما ليس هناك مجتمعا قد انبثق عنه نظامٌ مسلم ودولة بتعبير أكثر حدة ودقة ان نعيش حالة المجتمع المسلم وكأن آيات الحدود والأحكام لم تتنزل بعد. وهذا الذي نعنيه بتجاوز حالة الأناخرونزم ان نعرف الأحكام والحدود كما هي في كتاب الله، بينما نمتنع عن تطبيقها في غياب النظام والدولة ...
هذا هو الوضع الذي ينبغي للجماعات الاسلامية أن تأخذه بعين الاعتبار وهي تحاول ان تقيم مجتمعها الاسلامي .. أن يفكر الفرد بمنطق الفرد وليس بمنطق الجماعة .. وأن لا تفكر الجماعات بمنطق الأمة وبمنطق الدولة ..
وأما الأمر الثاني:
اعتماد مرجعية واحدة للأمة، تلتقي كلها عليه باعتباره القاسم المشترك لنشاطها وتفاعلاتها المتعددة .. وليس هناك مرجعا واحدا تجمع عليه الأمة فيما عدا القرآن الكريم واعتبار آياته وكأنها في تنزل مستمر، واعتبار الأحاديث الصحيحة المطابقة لروح القرآن الكريم والاجماع والقياس آليات لاستنباط الاحكام من القرآن الكريم .. فآيات القرآن الكريم اذا اعتمدت وحدها كمصدر للتشريع، فإنها تعطي العقل المساحة الكافية ليقوم بوظيفته كما ارادها الله، سبحانه وتعالى، لا كما قيدها فقهاء الأمة وعلماؤها، فأوجدوا مناطق يجوز للعقل ان يتحرك بها وحرموا عليه مناطق أخرى، وكأنها مناطق لا مفكر فيها .. وهذا هو تقييد لنشاط الذهن، وقولبة للفكر، واشتراط على العقل .. وهكذا تصبح حرية التفكير مشروطة قد تضيق وتتسع بمقتضى مزاج الفهم لدى طبقة الكهنوت والاكليروس، كما سبق في وضع الكنيسة وموقفها من النهضة العلمية في اوروبا. وإذا كان القرآن الكريم هو المرجع الأول والوحيد الذي ينبغي ان تعتمده الأمة بطوائفها المختلفة من السنة وحتى الشيعة فعليها ان تأخذ بمبادئه المعلنة والقطعية وأن تجري على مؤسساتها ونظمها مبدأ الشوري لقوله تعالى: " ... وأمرهم شورى بينهم" (الشورى 38) وكذلك أمر تداول السلطة بين الناس في قوله تعالى: "... وتلك الأيام نداولها بين الناس .." (آل عمران 140) وكذلك في مجال المال والاقتصاد: "... كي لا يكون دولة (المال) بين الأغنياء منكم" (الحسر 7). ولهذا ينبغي للجماعة في مستوياتها الادارية والتنظيمية، كما هو في مستوى الأمة ممارسة هذه المبادئ واعتماد الانتخابات المباشرة في تحديد الخيارات والبدائل امام الجماعة كما هو في مستوى الأمة.
الثاني 1: أن يُمارس منهج الانتخابات في صفوف الحركة او الجماعة او الأمة للمؤسسات ولأجهزة الادارة الأخرى .. وأن لا يحتل الشيخ قيادة الجماعة على اتساع حياته وامتداد صوته وجهوريته.
الثاني 2: أن يتكرر مبدأ الانتخابات بشكل دوري .. كل فترة زمنية محددة، فليس هناك نص في كتاب الله يمنع اعتماد هذا الاسلوب.
الثاني 3: وكما لا يجوز للشيخ ان يحتل ارادة الجماعة، ويغتصب قرارها، بأشكال ملتوية .. بتعبير آخر ان لا يتحدث الفرد بمنطق الجماعة ويقرر امورها العامة من غير ان يرجع الى مؤسساتها والتي هي في واقعها صورية وشكلية، كما لو كان يتعامل في موضوع شخصي يخصّه. وكذلك الحال مع الجماعة عندما تقرر للأمة، كما لو ان الجماعة أصبحت هي الأمة بأسرها.
الثاني 4: لا يكفي ان يعاد انتخاب المؤسسات وكذلك القيادة كل فترة زمنية محددة، وإنما ينبغي ان يرجع نظام الحركة او حتى الدولة الى الأمة يسأل رأيها وموقفها ومن ثمّ موافقتها في الأمور الهامة والخطيرة والمصيرية.
وسوف نقوم فيما يلي بمقارنة ثنائية بين فهم الرسول، صلى الله عليه وسلم، لمفاهيم الاسلام وقيمه، كما اوحاها الله رب العالمين والتزامه بتطبيقها .. وبين فهم الشيخ اسامة بن لادن لهذا النظام والتزامه به كنموذج للعديد من الشيوخ والدعاة:
1- في بداية الدعوة لدين الله، عندما تعرض ضعفاء المسلمين لتنكيل كفار قريش بهم وقتل بعضهم تحت التعذيب، كما حصل مع ياسر بن رباح وزوجه حين قتلوا امام ناظري ابنهم عمار، فنطق هذا الأخير في ساعة ضعف بكلمة الكفر ظنا منه ان ذلك قد ينجي والديه من جبروت قريش وبطشها .. فلما رآه رسول اله صلى الله عليه وسلم، حزن لما أصابه وبشّر والديه بالجنة، وقال له: لا بأس عليك بما نطقت به تحت التعذيب، إن عادوا فعد، بمعنى إن عادوا الى التعذيب فادرأ عن نفسك التعذيب بممالأتهم بلسانك، طالما قلبك مطمئن بالايمان.
2- عندما اشتد البلاء على المسلمين، وخاف رسول الله، أن يفتنوا في دينهم اشار عليهم بالهجرة الى الحبشة فرارا بدينهم.
3- بعد هجرة الرسول، صلى الله عليه وسلم، وبصفته المرجع الوحيد لوحي الله، تعالى، أصبح رئيس دولة الاسلام التي قامت في المدينة، فجمع بين مرجعية الوحي وبين قيادته للدولة، كمرجع سياسي فقد حصل على مبايعة الأمة له .. ولم تتوفر هاتين الصفتين لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع كونه مرجعا وحيدا للوحي، وحاصلا على انتخاب الأمة له في إدارة الحكم إلا أنه:
1:3 صمد أمام ضغوطات المهاجرين من المسلمين والحاحهم على محاربة قريش، التي أخرجتهم من ديارهم وقاتلتهم واغتصبت اموالهم وديارهم. إلا أن الرسول الكريم وهو يعلم ان اوضاع المسلمين غير جاهزة لبدء صراع مسلح مع قريش ولم يوح اليه بذلك .. مع ان موقفا كهذا عند الجماعات الاسلامية اليوم يفهم على انه تخاذل عن القتال وجهاد المشركين. وكان الرسول صلبا في موقفه، فلم يأذن بالحرب ، وأمر المسلمين بالصبر.
2:3 يوم بدر نراه وهو المرجع الديني الوحيد للامة والقائد السياسي المنتخب .. وقد خرج في طائفة من المهاجرين والأنصار لإعتراض قافلة قريش التجارية بقيادة ابي سفيان، بعد ان اذن الله له بقتال المشركين. إلا أن قبيل المعركة، وهي ما هي عليه من خطورة في تاريخ المسلمين .. ومع أنه خرج ومن معه لملاقاة المشركين وقتالهم، إلا أنه، صلى الله عليه وسلم، رأى أن يستشير لهذا الأمر العظيم (وبهذا فيكون الرسول الكريم قد سبق كل الأنظمة الديمقراطية التي تستفتي شعوبها عند القضايا المصيرية الهامة) وعمل الرسول هذا تشريع للأمة قادة وشعوبا ان تجري استفتاءات واستطلاع للرأي في الامور المصيرية، حتى وإن كان نظام الحكم منتخبا بصورة ديمقراطية.
1:2:3 وبما ان الأنصار قد بايعوه، صلى الله عليه وسلم، على نصرته والدفاع عنه داخل المدينة. فلم يكن بوسعه، وهو من هو في قومه، أن يفرض على الانصار الذين خرجوا معه حربا خارج نفوذ المدينة، لا تشملها شروط بيعتهم له، صلى الله عليه وسلم، فقال: أشيروا علي أيها الناس، والخطاب هنا عاما لمن معه، فقام أبو بكر، رضي الله عنه وتكلم وأحسن. فقال الرسول الكريم: أشيروا عليّ أيها الناس. فتكلم عمر بن الخطاب، رضي الله عنه وأحسن. ولكن الرسول يقول للمرة الثالثة: أشيروا علي ايها الناس. فيقوم المقداد، وهو رجل من الأنصار، كأنك تقصدنا يا رسول الله، أمض لما أمرك الله، ولن تجدنا إلا مقاتلين خلفك وبين يديك وأمامك ولن نقول كما قالت بنو اسرائيل لموسى عليه السلام، "اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون".
2:2:3 هذا يبين ان الرسول كان يفرق بين وحي السماء، وبين إدارة الحكم ومؤسسات النظام. عندما يكون الأمر وحيا من عند الله كان يقف عليه ولو عارضته الأمة كلها. وأما عندما يكون الأمر يتعلق بالسياسة وامور الحكم، فكان يكثر من الاستشارة، ويأخذ برأي الأكثرية، ولو كان فيه خطورة، كما حصل يوم أحد. حيث كان رأيه، صلى الله علية وسلم، ان يدافع داخل المدينة – حتى يلزم كل أهل المدينة في القتال، كما تنصّ على ذلك البيعة وكما كان ذلك رأي عبد الله بن ابي بن سلول – ولكنه عليه الصلاة والسلم نزل عن رأيه لصالح الأكثرية التي نادت بملاقات العدو خارج المدينة وكان ما كان من خسارة المسلمين .. وعلى الرغم من نتيجة الحرب القاسية فقد كانت موافقة رسول الله والعمل بصوت الأغلبية هو الصواب كتصرف سياسي ينزل على حكم الأكثرية.
3:3 يوم الحديبية: وقد خرج المسلمون يقصدون زيارة الكعبة. فلما داهمتهم قريش بفرسانها مستعدين لمنع المسلمين من دخول مكة. وشاع خبر ان قريشا قتلت عثمان بن عفان، رضي الله عنه والذي ذهب في سفارة الى قريش من قبل الرسول عليه الصلاة والسلام. وكان وضع القوى بين الطرفين غير متكافئ. وقد بات المسلمون امام مصير خطير يتعلق بحياة المسلمين افرادا وجماعة، وكذلك مصير الدين والدعوة برمتها، ومع ان المسلمين قد خرجوا من مكة وهم يعلمون وجهتم ومعهم رسول الله وهو مرجعيتهم الدينية الوحيدة وهو قائدهم السياسي المنتخب، إلا أن الرسول قد اتخذ خطوات بالغة الأهمية وهي دروس بليغة ينبغي للمسلمين ان يقفوا عندها طويلا:
1:3:3 في هذا الموقف الخطير، يرجع رسول الله للمسلمين كأفراد ليستفتيهم ويستطلع آرائهم ومواقفهم، وليأخذ منهم بيعة القتال، فبايعوه فردا فردا على الموت .. ولما رجع عثمان، رضي الله عنه سالمًا، وإذا بالرسول الكريم ينحو بهم منحى السلم والصلح، يأخذ البيعة للحرب، فلما تغيرت بعض الظروف، بمجيء عثمان، رضي الله عنه، وإذ به يختار السلم والصلح .. وهذا جاء ليقول للأمة أن خيار القتال هو الخيار الأخير، تقبله وهي مكرهة ومضطرة، وليست الحرب والقتال هدفا ومطلبا. ويرجع الرسول ومعه المسلمون من غير ان يدخلوا مكة في عامهم هذا.
2:3:3 جاء هذا الموقف ليميز بين سياسة العقيدة وبين تسييس الدين او الاسلام السياسي، فلم يستطع الصحابة الكبار يوم ذاك ان يميزوا بوضوح، ذلك الحد الدقيق الذي يفصل بين سياسة العقيدة وبين تسييسها. الأمر الذي ظهر من اعتراض عمر بن الخطاب، حين سأل ثائرا: ألست رسول الله حقا؟ قال الرسول العظيم: بلى.! قال عمر ألسنا مسلمين؟ قال الرسول بلى.! أليسوا كفارا؟ يقول الرسول: بلى. فيقول عمر: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ وسوف نقوم بتحليل أخطر بنود هذه الاتفاقية، لنرى الحد الفاصل بين العقيدة وسياستها وبين تسييسها..!
3:3:3 اعترض سهيل بن عمر مفاوض المشركين على كتابة باسم الله الرحمن الرحيم واستعاض عنها بقول بإسمك اللهمَّ، وهو قول مقبول على المسلمين وعلى قريش .. فالمسلمون طالما كرروا في دعواهم: اللهم اعطنا، اللهم أسقنا الغيث اللهم انصرنا ... وهذه المساحة المشتركة بين المسلمين والمشركين، فليس فيها تنازل من جانب المسلمين عن عقيدة، فقد تمّ استبدال كلمة حق ليست مقبولة على الطرف الآخر بكلمة حق أخرى مقبولة على الطرفين .. وهذا جاء ليقول لنا أن ليس علينا جناح ان نقبل من المشركين ما لا يتعارض مع ديننا .. ويشير أيضا الى مبدأ التصالح والتسامح ولربما التساهل في المواقف السياسية، عندما يتعلق الامر بالحرب والسلام. فأين الدنية في كل هذا؟
4:3:3 اعترض سهيل بن عمر على كتابة: هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله. فاعترض سهيل: لو كنت اعتقد انك رسول الله ما قاتلتك. بل اكتب هذا ما عاهد عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو .. وفي هذا اشارة الى:
* على المسلمين ان يتنازلوا من اجل الاتفاق مع خصومهم، بما لا يتعارض مع عقيدتهم .. لو غفل المشركين عن هذا الاعتراض لكان انتزاع اعتراف منهم برسالة محمد، صلى الله عليه وسلم، وكان نصرا سياسيا، اما وقد تنبه مفاوضهم الى ذلك فلا حرج من الاستجابة لطلبه بإحداث هذا التوازن بين الطرفين. فمحمد بن عبد الله هو نسب الرسول الكريم وهو المساحة المشتركة بين من يؤمن برسالته وبين من يجحدها وينكرها.
* المسلمون هنا يوقعون اتفاقية سياسية، وعلينا ان نميز هذا المفصل الدقيق بين المواقف السياسية وبين المواقف الدينية العقائدية.
* بالنسبة للمسلمين فإن الرسول، صلى الله عليه وسلم، هو زعيم سياسي، ونبي من عند الله. بينما هو عند خصومهم هو زعيم باعتبارات سياسية، ولا يؤمنون برسالته الدينية، فالاتفاقية سياسية ينبغي ان تقوم على ما يتفق عليه الفريقان .. وهنا يعترف الفريقان ان محمدا، صلى الله عليه وسلم، هو قائد سياسي .. وبهذا لم يخسر المسلمون من عقيدتهم شيء، بينما كسبوا معركة سياسية أن اصبحوا ندا لقريش، على ما لها من هيبة بين العرب جميعا .. وهنا ايضا أين الدنية في دين الله؟
5:3:3 أن يرجع المسلمون عامهم هذا وينتظرون حتى الموسم القادم .. فتخرج لهم قريش عن مكة ثلاثة ايام . وهذا فيه انتزاع حق ديني للمسلمين، وكانت قريش لا تعترف به قبل ذلك .. وما تمّ من جانب المسلمين ليس غير هو تأجيل عمرتهم سنة اخرى وفي المقابل تعترف قريش للمسلمين بحقوقهم في زيارة البيت الحرام، فيخرج المشركين للمسلمين عن مكة ثلاثة ايام .. من هو المستفيد من ذلك؟ بل اين الدنية في ذلك؟ إنه كسب ديني وسياسي في آن واحد يا عمر، أيها الفاروق.
6:3:3 ان يرد المسلمون كل من جاءهم مؤمنا من قريش وعليهم كذلك ان لا يمنعوا مسلما يريد ان يرتد الى قريش .. فالمؤمن قد يستطيع العيش في قريش وهو يكتم ايمانه. فيكون مجتمعا يتكتم على المسلمين في داخله، وهذا عيب فيه وفي نسيجه الاجتماعي والسياسي. وقد يستطيع المؤمن ان يهاجر الى أي مكان في الأرض غير المدينة .. وهذا نصر للمسلمين ولدعوة الله. وفي مقابل ذلك من اراد ان يرجع عن دين الاسلام الى قريش، فلا يمنعه المسلمون ذلك. وهذا في حقيقته يضيف صحة للمجتمع المسلم، بحيث يخرج منه كل خبث .. فأين الدنية في ان لا تمسك كافرا يبطن كفره ويظهر ايمانه. بينا يعيش المسلمون في مجتمع مكة وفي غيره. وفي هذا موقف فقهي من قضية قتل المرتد.
7:3:3 ثم حادثة أبي جندل، عندما جاء معسكر المسلمين هربا من قريش وهو مصفّد بالحديد، حدث ذلك بعد ان وقع رسول الله الاتفاقية مع سهيل بن عمرو فرده رسول الله قائلا: نحن قوم لا نغدر، ولا ننقض عهودنا، ارجع فسوف يجعل الله لك مخرجا.
1:7:3:3 هذا يدل ان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان حافظا للعهود والمواثيق. وكان يفكر ويتصرف بمنطق رجل الدولة الأول. وفي كل ما تقدم كان يقف موقف رجل الدولة، ليس رجل الجماعة او الفئة او الفصيل ... في كل خطوة كان يحسب مردودها الكلي الشامل على الدولة.
هذه كانت بعض مواقف رسول الله وهو يمثل المرجعية الدينية الوحيدة، الذي كان يتلقى عن ربه، وكذلك فإنه كان يمثل المرجعية السياسية بكونه رئيس الدولة المنتخب سياسيا. وهنا يتبين ان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان لا يخلط عملا بعمل، ولا شخصية بشخصية ولا منطق بمنطق .. كان عليه السلام اذا تحدث بصفته رسولا تحدث بمنطق الرسل. واذا تحدث كرجل دولة، تحدث بمنطق الدولة وبالمنطق السياسي الاجتهادي وكان يستشير الأمة في قضاياها السياسية واليومية، ويستطلع رأيها وموقفها في القضايا الخطيرة ولا يركن الى التفويض الممنوح له من الأمة وهي تبايعه .. وكان عليه الصلاة والسلام اذا تحدث كشخص تحدث بمنطق الفرد. وعلم أتباعه ان في كل الأمور الدنيوية هم أعلم بأمور دنياهم .. وهذا يعني ان القضايا التي تمس حياة الناس في هذه الدنيا، علينا ان نجتهد لها على أسس واقعية من تجاربنا العلمية والعملية ..
كل هذا مؤشر ودليل على ان احاديث الرسول، صلى الله عليه وسلم، ينبغي ان تحمل وان تفسر على هذا المحمل وبمقتضى هذا المنطق .. فالرسول الذي لا ينطق عن الهوى، هو في أمر الوحي وما صدر عنه وبهذا فهو معصوم من الخطأ بلـّغ رسالة ربه كما ورد في القرآن العظيم، المحفوظ من عند الله، وهو أصل ديننا .. وأما مواقف الرسول كسياسي ورجل دولة، ينبغي ان تدرس وتبحث في حيزها السياسي وهنا مكان لاجتهادات البشر الى جانب احتهاد الرسول. بل لطالما غير الرسول رأيه في هذا المجال ونزل على مشورة اصحابه أهل الاختصاص ومن كان لهم دراية في الحرب والسياسة .. وحادث يوم بدر دليل قطعي على ما نذهب اليه، حيث نزل الرسول بالمسلمين بمكان، فقام أحد المسلمين وقال: يا رسول الله أهذا (المكان) انزلكه الله؟ أم هي الحرب والمكيدة والخديعة؟ فيجيب ارسول بل هي كما ذكرت، فقال الرجل، اذا فإن هذا ليس برأي، هكذا يصل الامر بأحد المسلمين ان يرد على راي الرسول بأنه ليس برأي، ليس بصواب، بل ننزل مكان كذا وكذا، فنشرب ولا يشربون ...". ويعلمنا هذا درسا بليغا ان المسلمين على عهد رسول الله كانوا يفرقون بين تبليغ الرسول عن الله، فله السمع والطاعة وبين احتهاده البشري، فهنا يحاوره المسلمون ويعترضون عليه ..
ومعنى ذلك علينا ان نميز بين ما جاءنا به الرسول من عند الله، فعلينا السمع والطاعة، وبين ما كان يجتهد به الرسول كرجل سياسة بشري قد يصيب ويخطئ كما علمنا صلى الله عليه وسلم في موضع القضاء .. كما سيجيء في مكانه من البحث .. وعلى الرغم من كل ذلك فقد كان عليه الصلاة والسلام خلقه القرآن العظيم .. ولهذا لا ينبغي ان ينسحب موقف على موقف، ومنطق على منطق. فلا نسحب الموقف الديني على الموقف السياسي، او كليهما على الموقف الشخصي الفردي.
هذا درس موجز من حياته، صلى الله عليه وسلم، في حدث من الاحداث، في صلح الحديبية فتعال بنا نقارن هذا الموقف لرسول الله، صلى الله عليه وسلم وهو المرجعية الدينية الوحيدة للأمة كلها، وهو قائدها المنتخب يدير سياستها وبهذا فهو مرجعيتها السياسية الشرعية ايضا بموقف لشيخ من شيوخ الجماعات الاسلامية، الشيخ اسامة بن لادن.

الشيخ اسامة بن لادن وتنظيم القاعدة وحركة طالبان:
سوف ننطلق من مثال ابن لادن وتنظيم القاعدة وحليفه طالبان من فرضية ترى ان تأسيس هذه التنظيمات جاءت بمبادرات ذاتية خالصة .. مع ان امكانية كونه تنظيما صوريا لا تهمنا في
دراستنا هذه، ولسنا هنا لكي نبرهن بالفعل قيام تنظيمات صورية من هذا القبيل.
وما نقصده بالتنظيم الصوري أحد أمرين:
1- إما أنه تنظيم شكل إطاره الإداري والفكري والايديولوجي طرف ثاني شكله الآخر، والآخر هنا هو الغير اسلامي بتعبير آخر أن يتم توظيفه شكلا وقالبا وكذلك قلبا وفكرا من قبل اعداء الأمة.
2- وإما أنه تنظيم هيأ له الآخر ظروف تشكيله، بحيث يمسك الآخر بشروطه الظرفية، التي تتيح استمراريته او توقفه، قوته او ضعفه. وهو من شدة غبائه، لا يدري واقعه، ولا يدري كذلك أنه موظف عند الآخر ..!
وضع العالم الاسلامي في تاريخه الحديث يعاني من:
1- ليس للعالم العربي والاسلامي مرجعية دينية واحدة يجمع عليها جميع المسلمين.
2- وكذلك ليس للعالمين العربي والاسلامية مرجعية سياسية واحدة.
بل إن هذا العالم الجغرافي الواسع، ليعجّ على المستوى الاسلامي بالمئات العديدة من الملل والنحل والطوائف المتباينة والمختلفة، بل المتصارعة، والتي لا يقوم بينها روابط مباشرة حية وفعّالة، وإنما قد تقتصر على طقوس دينية تعبدية شكلية لا تستطيع تغيير واقع الفرد ولا الأمة. وكذلك على الصعيد القومي فإنه يموج بقوميات وجماعات عرقية كثيرة يكيد بعضها لبعض ويمكر بعضها ببعض. بل هي تعاني من نشوب صراعات بينها لا تنتهي، وتتحالف مع الأجنبي ضد بعضها البعض .. بل تستعدي على بعضها العدو الاستعماري التقليدي الطامع في خيراتها وثرواتها.
وبهذا المقياس الذي سبق أن اشرنا اليه فإن تنظيم القاعدة وعلى رأسه بن لادن وحليفه طالبان، لا يشكلان مرجعية لا على المستوى الديني ولا على المستوى السياسي، لا في افغانستان ولا خارجها. وهما ليسا غير تنظيمين من مئات وآلاف التنظيمات التي يتشكل منها نسيج العالم الاسلامي .. ومن هذا المنطلق، فليس لها مصداقية دينية او سياسية ان يتحدث باسم المسلمين او العرب. وبهذا المعنى فإن كل قراراتها هو اغتصاب لقرار مجموع الأمة الغائب بل المعطل منذ مئات السنين. وكذلك فإن تصرفاتها ما هو إلا احتلال لإرادة الأمة الدينية والسياسية. بينما اسقاطات هذه السلوكيات والممارسات والإجراءات التي تنفرد باتخاذها ونتائجها تطول مجموع الأمة .. ولا يحدث هذا إلا إذا اختلّ ميزان المنطق الذي تزن به امورها. فهي تتخرك بمنطق الأمة وبمنطق الدولة من غير تفويض من اي منهما. بل إن زعيم القاعدة نفسه لم نسمع ولم نقرأ انه انتخب لهذا المنصب او انه يملك آلية كهذه. والأمر نفسه ينسحب على حليفه طالبان، الذي ما جاء لحكم افغانستان عن طريق استفتاء عام. ولم تنقاد له البلاد كافة بالمغالبة. بل عاش سنوات حكمه الستة في حرب مستمرة مع مركبات شعبه المختلفة .. وهذا التحالف بين القاعدة وطالبان لم يعترف به دوليا غير بعض حلفاء الولايات المتحدة من بين العرب والمسلمين وهي: باكستان والسعودية وبعض دول الخليج. لم تعترف به أكثر من أربع دول من مجموع دول العالم.
وعلى ذلك نستطيع القول:
1- إن الحرب على الاتحاد السوفييتي في افغانستان كانت حلقة من الصراع العالمي بين حلف الناتو والاتحاد السوفييتي، استطاعت فيه الولايات المتحدة والصهيونية العالمية بما فيها (اليهودية والمسيحية والعربية) توظيف العديد من تشكيلات "الاسلام الجهادي" او الاسلام السياسي ليخوض هذه الحرب ضد القطب الثاني في العالم، والذي كان يعتبر "فيتو" حركة التحرر الوطني في العالم بما فيها حركة التحرر العربية. لقد كانت حربا قام بها العرب و"الاسلام الجهادي" نيابة عن الولايات المتحدة، وقد تم توظيفهم على يد المخطط الغربي .. هذه الحرب التي قام بتمويل عملياتها الولايات المتحدة والسعودية ودول الخليج، بينما كان وقودها شباب "الجهاد" العربي والاسلامي .. هذه الحرب التي كان من نتائجها انهيار الاتحاد السوفييتي وبقاء العالم تحت سيطرة القطب الواحد، تحت قسوة الولايات المتحدة. ولهذا فقد حاربت القاعدة وطالبان والى جانبهما كافة فصائل المجاهدين الأفغان حرب الولايات المتحدة نيابة عنها، من حيث لا تدري، فكان حالها كحال من يقطع الفرع الذي يقف عليه .. وكذلك فإن هذان التنظيمان قد حاربا بغير تفويض من الأمة العربية او الاسلامية.
2- عندما خرج الاتحاد السوفييتي مهزوما من الحرب الباردة، فقد تمّ على الفور تنصيب الاسلام "عدوًا" للغرب ومصالحه. "الاسلام الجهادي" حليف الامس، انتقل بقدرة الاعلام الامريكي الصهيوني الى خانة الارهاب الدولي الذي ينبغي ان يحشد العالم، كل العالم، طاقته ليقتلع شوكة هذا الارهاب .. في الوقت نفسه تنبري تنظيمات القاعدة وطالبان، بتأكيد المبادرة الغربية، واعلنت بدورها الحرب على الغرب "الصليبي". وبهذا وضعت العالم العربي والاسلامي أمام حرب وصراع من غير ان يستشار أيًا من العرب والمسلمين وراحت هذه التنظيمات تعمل وفق المخطط الغربي والبرمجة الصهيونية الامريكية فتغتال فردا هنا وفردا هناك، او الهجوم على بعض السفارات، لتكون حصيلة القتلى من تلك الشعوب الفقيرة المسحوقة في افريقيا وآسيا. ومع كل قتل لفرد امريكي او قنبلة يزرعها هنا وهناك يعلنها "الجهاد الاسلامي" وكأنها غزوة .. بينما لم تصل يدها لضرب المصالح الاقتصادية الامريكية المنتشرة، بل التي تحتل هذا العالم بطوله وعرضه. وإنما اقتصرت حربها على قتل السواح من الغربيين الذين يزورون الدول العربية والاسلامية ليردوا لها بعض الدولارات القليلة التي يتم نهبها من ثروات هذه البلاد، فكانت حربا اقتصادية على بلادهم أكثر مما هي حرب على المصالح الأمريكية .. كما هاجمت طالبان في بداية الألفية الثالثة تماثيل بوذا معلنة انتهاء الاحتلال الأجنبي لبلادها، فلم تعد تميز بين الآثار والمعالم التاريخية، التي هي كنز وثروة وطنية، وبين الاحتلال الأجنبي.!! الأمر الذي ألّب العالم غربه وشرقه ضد ظواهر العنف هذه.
3- استطاعت تعطيل برامج الدعوة الاسلامية لعشرات التنظيمات الاسلامية التي كانت تعمل في اوروبا وأمريكا. والتي تمّ حصارها واغلاق العديد منها .. بحجة علاقتها مع مشروع "الجهاد الاسلامي" الارهابي. وهكذا اقترن مصطلح الارهاب والعنف بالعرب والمسلمين. وهم أكثر شعوب الارض تعرضا لللإرهاب من الآخرين. وأصبح الاسلام وهو اكثر الاديان رحمة وتسامحا وانسانية متهما كمصدر للإرهاب والعنف في العالم..!
4- تبرع بن لادن وتنظيم القاعدة بتبني عمليات الحادي عشر من ايلول 2001 ضد الولايات المتحدة .. من اجل ان ينال مشروع تنصيب الاسلام "عدوا رئيسيا للغرب" مصاداقية وشرعية من قبل العالم، والعالم الغربي بشكل خاص. وحتى يتاح أيضا للولايات المتحدة اعلان حرب دفاعية ضد الهجوم "الاسلامي" عليها. والذي تحدد مصدره مسبقا، وقبل ان تفتح اول صفحة في ملف التحقيق في هجمات نيويورك وواشنطن. وثمّ تحديد القاعدة وطالبان وافغانستان كهدف اولي مسؤول عن هذا الاعتداء .. وعلى الفور يتبرع بن لادن بإعطاء الدليل باعترافه وتحمل مسؤولية الهجوم، وجاءت اعترافاته شهادة واضحة على صحة الادعاءات الامريكية .. وراحت بياناته التعيسة من وقت لآخر تصب في خدمة السياسة الامريكية، فقد كانت تصريحاته وخطاباته تجيء حسب الطلب الامريكي توقيتا ونصا ..
5- وراح من كهف غائر في جبال افغانستان، يحاذر ان تراه الشمس في تقسيم العالم الى فسطاطين، فسطاط المسلمين وفسطاط الآخرين (فسطاط الايمان وفسطاط الكفر) .. وفي الجانب الآخر راح بوش يرد بنفس العقلية "من ليس معي فهو ضدي" ونسأل:
1:5 من الذي أعطى بن لادن الحق لتقسيم العالم الى فسطاطين، هل بكونه المرجعية الدينية الوحيدة للمسلمين!؟ أم بكونه المرجعية السياسية الوحيدة لهم؟
2:5 إن تصريح بوش في المقابل يصدر من ذات النغمة، من ذات الأصولية "المسيحية الصهيونية" والتي تعمل لتمهيد الطريق لمجيء المسيح اليهودي الذي سينزل ومعه اورشليم والهيكل من السماء!! لكن يظل الفارق بين الاثنين ان بوش جاء بتفويض من الامريكيين ويعمل ضمن مؤسسات دستورية ذات سلطات واضحة وسوف يغادر البيت الأبيض في نهاية الاربع سنوات .. لكن من هو الذي سيخلف بن لادن في كهفه؟ وبأية آليات سيحدث ذلك؟
6- وإذا صح ان تنظيم القاعدة له هذه القدرات، ويمتلك تلك الكفاءات العالية والتي استطاع ان يخترق دفاعات أعظم وأقوى دولة في العالم، وأن يصيبها في أكثر مواقعها حساسية واستراتيجية، بل بلغت قدرته وكفاءته ان يضرب أخطر نقطة في البنتاغون نفسه .. بينما هو لم يستطع ان يتعامل مع أنظمة عشائرية وقبلية كأنظمة الخليج، وأن يقوم بتحريرها من هذه الأنظمة التي تجثم على هذه الأرض العربية والاسلامية باسم الاستعمار!!؟
1:6 كان على تنظيم القاعدة، كتنظيم يدعي الاسلام، ويدعي حمله لمشروع نهضة اسلامية، ان يحاول بناء وتأسيس هذا المشروع في بلاده وفي وطنه الاسلامي. فلو اقتصر نشاطه في بلاده، فلن يعترض عليه أحد، وهو يفكر في تغيير نظام الحكم في بلاده .. أما أن يستعيض عن ذلك بغزوه لأقوى دولة في العالم وهو لا يملك شبر أرض يقف عليها. بل إن الكثيرين من تنظيم القاعدة موجودين على ارض من يدّعي عداوتهم، يعيشون في بلادهم ويأكلون من خيراتها، وينعمون بحماية قوانينه .. هذا ما لا يستطيع ان يتخيّله غبي بلغ من تخلفه العقلي درجة يتساوى فيها مع أغبى حيوانات الأرض.
2:6 لماذا لم يستشر تنظيم القاعدة أهل افغانستان وهو ينظم ليشن هجماته على الولايات المتحدة ومصالحها من على ارض ليست أرضه ومن دولة ليست دولته.؟ ما ذنب شعب افغانستان، وبلاد المسلمين من غير افغانستان حتى تتحمل نتائج مغامرات ومجازفات وتهورات مجموعات ليست منه ولا هو منها؟
3:6 ما الذي حققه بن لادن وتنظيمه لأفغانستان، فإذا كان قد ساهم بمساعدة الولايات المتحدة حليفته في اخراج السوفييت من بلادهم، لكنه بتبنيه للهجمات التي شنـّت على الولايات المتحدة فقد ورّط أفغانستان لغزو حلف الاطلنطي لها، واخضاعها لقوة أكثر ظلما، وأشدّ بطشا وقسوة من السوفييت..!!
7- كما ان لإدعاءاته بأن تنظيمه يمتلك قواعد في غالبية الدول العربية والاسلامية جعل من هذه الدول هدفا للمشروع الاستعماري الامريكي والصهيوني، تختار منه ما تشاء ساعة تشاء. ويظهر ان كهوف افغانستان وجبالها برعت في انتاج نماذج حسن الصباح صاحب قلعة الموت.
1:7 وكما سبق ان أوضحنا فإذا لم يكن بن لادن مرجعا دينيا للمسلمين وهو كذلك ليس مرجعا سياسيا لأي منهم، فبأي حق يقوم بأعمال حربية يتحمل المسلمون وبلاد المسلمين نتائجها المدمرة؟ والى اي قانون أخلاقي يعتمد؟
هذه كلها بعض الدلائل والمؤشرات التي أبحث عنها حتى أتمكن من الجواب على سؤال كبير: لماذا تتاخر النهضة العربية وقد مضى عليها ما يقارب المئة وخمسين عاما؟ وكذلك هو الحال مع السؤال: لماذا تتأخر النهضة الاسلامية وقد مضى عليها ما يزيد عن مئة وخمسين عاما...؟
* * *
وهكذا قد رأينا كيف تصرف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو المرجع الديني الوحيد للأمة، بكونه أمين وحي السماء. وبصفته رئيس دولة حائز على بيعة الأمة له، فهو بهذا الاعتبار مرجعيتها السياسية .. رأينا بأي منطق كان يتحدث ويعمل؟ وفي المقابل رأينا تصرفات بن لادن والمنطق الذي يتحرك من خلاله، مع كونه لا يمتلك مرجعية دينية ولا سياسية، فأي النموذجين أصدق؟ وايهما أكثر حكمة؟ أيهما أقرب لمفاهيم الشورى وتداول الآراء والمواقف؟ وبالتالي فأي النموذجين أحق أن يتبع؟
ومع كل الذي قلناه وسنقوله، وهو قليل، فإني أرى أن بن لادن سوف يبقى نموذجا تستنسخ منه الولايات المتحدة والصهيونية نسخا متعددة، تبعثه في الوقت الذي تختار .. للهدف الذي تراه. تماما كما كان يُستنسخ نموذج اين السوداء (السبأية) فيما مضى من التاريخ الاسلامي .. وكما استسخت وتستنسخ نماذج كهذه من العرب وغير العرب ومن المسلمين وغير المسلمين.
* * *
كم عانى العرب والمسلمون من اختلاط الأدوار، دور الفرد بدور الحزب ودور الحزب بدور الأمة ودور الدولة بدور كل منهم. كم عانت وكم ستعاني من هذه الثقافة؟
في تاريخ مضى كانت الجاليات الاسلامية من المسافرين والتجار في البلاد الغير اسلامية رسل دعوة، ورسل خير .. وكم هي البلاد التي اعتنق أهلها الاسلام عن طريق معاملات التجار والمسافرين بصدقهم واخلاصهم وقيمهم. هل وصلت الفتوحات الى اندونيسيا وماليزيا وجنوب شرق آسيا؟ هذه البلدان الواسعة قبلت بالاسلام عن طريق الجاليات الاسلامية. بينما هذه الأيام، أصبحت هذه الجماعات والتشكيلات "السبئية" نذر شؤم على الاسلام والمسلمين، وعلى بلاد المسلمين .. أصبحت كالغربان لا تنعق إلا بخراب ولا يتبعها إلا دمار، لأن هذا هو الهدف الذي من أجله تشكلت. كلها نماذج يسير من خلفها وفي إثرها أبرهة الاشرم، كلها تدله وتسلك به الطريق الى الكعبة..!!
هذه المجموعات والتشكيلات استطاعت ان تسمم العلاقات بين الأقليات المسلمة في اوطانها وبين حكوماتها والغالبية من شعبها، كما هو الحال في دول شرق وجنوب آسيا، كما هو الحال مع الأقلية الاسلامية في الصين والهند، وكما هي في اوروبا وامريكا ... فبدل أن تدع هذه الأقليات تعيش حياة الأمن والثقة في أوطانها وتتحول الى قنطرة للعلاقات الطيبة بين بلادها التي تعيش فيها وبين دول العالم العربي والاسلامي .. استطاعت تلك التشكيلات، نذر الشؤم والسوء أن تعمل على تكريس القطيعة بين الأقليات المسلمة وبين شعوبها وحكوماتهان وتعمل في الاتجاه نفسه على تخريب العلاقات بين هذه الدول والدول العربية والاسلامية.
لو لم تكن لهم رسالة من هذا النوع لتعلموا كيف تصبح الجالية جسرا للتفاهم وتبادل المصالح بين بلادها التي تعيش فيها وبين بلدانها الاصلية التي هاجرت منها .. لتعلموا من أساتذتهم اليهود، كيف تعمل كل أقلية يهودية على تحسين وتطوير العلاقات في كل المجالات بين اسرائيل وبين الدول التي تقيم بها هذه الجاليات. ولكن ما الذي نستطيع ان نفعله، غير الكتابة وتعرية المستور خاصة في زمن "تؤذن فيه واشنطن للجهاد في كابول" كما يقول الصحفي محمد حسنين هيكل ..! ماذا نستطيع ان نفعل غير محاولة رفع الحجاب والقناع عن البوم والغربان في زمن أصبح فيه "الجهاد" مصلحة امريكية وصهيونية.!!!


عراق صدام النموذج القومي:
بعد ان تم تقسيم الدولة العربية الواحدة بموجب اتفاقية سايس-بيكو بعد الحرب العالمية الاولى، وقبلت الصهيونية العربية بذلك، الى ما عرف بالدولة القطرية، وبدل الدولة الواحدة قامت عدة دول، ورضي العرب بذلك. بل لقد أصبحت الدولة القطرية مطلبا .. لكل دولة أصبح رموز تدافع عنها وهي غاية مطلبها، أصبح لها حدودا تدافع عنا وأصبح لها نشيدا متميزا وعلما ترفعه .. وظل عدد الدول العربية في ازدياد، حتى أصبحت بعض الدول ليست أكثر من مشيخة او إمارة .. ولم تتخذ خطوات رسمية ولا شعبية لتحقيق أهداف الوحدة العربية، وقيام دولة العرب الكبرى، التي تحمي مصالحهم وتقود مسيرة تقدمهم وتجتاز بهم عتبة التخلف والضعف والعجز .. حتى أصاب هذه الشعارات إحباط من امكانية تحقيقه .. وحتى بات المرءُ يشك في أن هذه الأنظمة تحتوي في أحشائها على بذور التناقض والخلاف وعلى جرثومة الضعف والعجز، يرى الإنسان العربي شعوب العالم ودوله تسير الى إقامة تحالفات وكيانات كبيرة على ما بينها من تباين واختلاف، وعلى العكس من ذلك يزداد العرب والمسلمين تفتتا وتشظيا .. الدول الأوروبية، ذات القوميات المختلفة واللغات المتباينة والثقافات المتعددة تتقارب وتتحد، وشعوب في جنوب شرق آسيا تقيم منظمات اقتصادية على ما بينها من اختلاف .. والعرب بلغتهم الواحدة وديانتهم وثقافتهم وتاريخهم الواحد يتباعدون ويزدادون فرقة وانقساما. وبدل ان يتحول مركزها الى قوة جذب كما هو في العادة يصبح قوة طرد وتنفير .. فإذا كان الاستعمار يريد تجزئة العالم العربي وتفريغه من قواه .. فما بال العرب أنفسهم يكرسون في واقعهم ما يريده الاستعمار منهم؟ هل تماهت الارادة العربية مع الارادة الاستعمارية؟ أم ان القوى الفاعلة على الساحة العربية حكومات ومعارضة قد تبنت شعار الاستعمار؟ ماذا بقي من عروبتها؟ ماذا بقي من اسلامها؟ أليس الأجدر بنا تسميتها باسمها الوظيفي الذي تزاوله في واقع سلوكها؟ أليست "صهيونية عربية" بدائريتها العربية والاسلامية..؟ لماذا لا يتحد العرب اذا كان القائمون على امورهم عربا؟ أجل لماذا؟
وإذا ما رضيت الأنظمة العربية بمثقفيها وشعوبها وجيوشها بوجود شرعية ومصداقية للدولة القومية القطرية، فأصبح الدفاع عن حدودها وعن علمها وعن كيانها والموت في سبيل بقاء استقلالها باتت ثقافة وتربية وأصبحت لكل دولة مؤسساتها وكياناتها المستقلة .. وغاب عن السطح حتى شعار الوحدة العربية بعد ان أبدلته الأيام بشعار التضامن العربي ثم التعاون العربي .. واليوم لقد غاب حتى هذا الشعار المائع .. واذا أصبحت الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية هي التي تحسم في القضايا الحدودية المتعلقة بين دول الجامعة العربية .. وباتت الجامعة العربية عاجزة عن تحقيق ومعالجة أي أمر من الأمور العربية، مهما صغرت، فما هي الفائدة المرجوة من قيامها واستمرار وجودها؟ ما هي مبررات وجودها.؟
بعد كل هذا الوصف للوضع العربي، جاز لنا ان نسأل: بأي حق يمكن لرئيس دولة قطرية، ان يتحدث بمنطق العالم العربي والأمة العربية؟ بأي حق يتخذ قرارات منفردة تمس وتطول نتائجه الوضع العربي العام؟ أليس هذا خلط بين منطق الدولة ومنطق الأمة؟ وهكذا تغتصب الدولة القطرية قرار الأمة وتحتل ارادتها ..؟ أنا لا استغرب تداخل المنطق بين الدولة والأمة ولكني استغرب واستنكر ان يعطى هذا الحق للقيادات الصهيونية العربية نفسها..! أجل قيادات عيونها تدمع على مصائب العرب والمسلمين بينما قلوبها تضحك .. تماما كما قال ذلك المستعرب اليهودي جملئيل كوهين عندما سمع باستشهاد عبد القادر الحسيني: "عيناي تدمع وقلبي يضحك".
ثم بعد كل هذا يأتي العراق ويحتل الكويت، جارته، الدولة القطرية وهي عضو في الجامعة العربية، وعضو في الأمم المتحدة، ومن دول عدم الانحياز، وعضو بارز في المجموعة الشمسية .. وقطب من أقطاب المجرة لا يستهان بموقعها...!!! حتى وإن كانت في يوم مضى جزءا من الأرض العراقية تاريخيا وجغرافيا وسكانيا لكن ما العمل وقد كانت هذه ارادة الأب كبير العائلة صاحب الجلالة البريطانية في تقسيم إرثه بين أبنائه واحفاده فاقتطع هذا الجزء من ارض العراق .. لكن أيضا بهذا المعنى فإن سوريا الكبرى او بالأحرى التي كانت كبرى قد كانت تضم أيضا بين أحشائها كلا من الأردن ولبنان وفلسطين، ولكن بعملية قيصرية اجرها الاستعمارالانجليزي الفرنسي الصهيوني فقد ولدت هذه الدول .. وما دام الأمر كما ذكرنا فكيف ستقبل الأمم المتحدة، أو الجامعة العربية وحتى الأجرام السماوية احتلال عضو فيها؟ وإذا كان المنطق الذي تسير بمقتضاه الدولة القطرية هو الذي تعمل به كل الدول العربية القطرية .. بحيث أصبح من أولى مسؤوليات نظام الدولة القطرية المحافظة على مصالح هذه الدولة وتطويرها وتقدمها وتكريس وضعها وحماية استقلالها من اي وحدة مع من حولها من الدول. وتمشيا مع هذا المنطق، فإنه لا يجوز لدولة من هذه الدول ان تمارس سياسة المجازفات والمغامرات خاصة عندما تكون هذه المجازفات مع دولة قطرية اخرى تقوم الى جانبها. فتجر عليها حربا كما جرى مع العراق .. ما هو موقف الدولة القطرية العربية في مثل هذا الظرف وهي ترتبط بمعاهدة "دفاع مشترك" مع كلا من الدولتين!!!!؟ كيف ستتصرف عندما تكون هذه الحرب بين دولة كالعراق وبين الولايات المتحدة وبريطانيا وبعض الذيول الأخرى.؟ في هذا الظرف هل ينبغي ان تجازف الدولة القطرية وتحارب الى جانب العراق حربا محسومة النتائج لغير صالحها؟ وقد تعرض استقلالها (حتى وان كان شكليا) للخطر؟ إذا اردنا ان نطبق منطق الدولة القطرية ذاتها، ظهر لنا هذا التناقض صارخا بين مشؤوليات الأمة وواجباتها وبين مسؤوليات الدولة القطرية وواجباتها...!
منطق الامة يرى ان كل نشاط يمكن ان تطول نتائجه الأمة كلها، ينبغي ان تقرر فيه الأمة كلها. وأن يصدر عن موافقة الأمة، او غالبية الأمة على أقل تقدير. وفي حالة الامة العربية، فإن الجامعة العربية كمنظمة تضم كل الدول العربية، لو كان لها كيانا سياسيا وثقافيا عربيا في حقيقته، يملك من الصلاحيات ما يستطيع ان يمارس مسؤولياته ويتحمل تبعات ذلك، لكان لهذا الكيان صلاحية التحدث باسم الأمة وبمنطق الامة .. ولكنها للاسف ليست كيانا واحدا وانما كيانات متعددة وأحيانا متخاصمة. ولهذا تفتقر الى منطق محدد في خطابها العام. ومن وجهة نظر الدولة القطرية، ما هي مصلحة بلد كمصر مثلا، على ما هي عليه أوضاعها، ان تخوض حربا ضد الولايات المتحدة الامريكية نتائجها محسومة سلفا. لكي تدافع عن مغامر لا يحسب خطواته سواء كانت مع الكويت او مع ايران، وهذه المغامرات هي المقدمات التي اورطته في حرب مع العالم كله عام 1990 وبقي في حصار محكم من جميع دول العالم ما يزيد عن ثلاثة عشر عاما، ثم في حرب مع أقوى دولة في العالم وهي الولايات المتحدة وبريطانيا وتوابعهما عام 2003، خاصة مع غياب "فيتو" عالمي ضد ممارسات غرور القوة في تصرفات الولايات المتحدة .. هل ينبغي للدولة القطرية العربية (بموجب منطقها) ان تعطي غطاء لممارسات ومغامرات النظام العراقي الغير محسوبة مع جيرانه؟ ألم يحارب ايران ثماني سنوات بتنسيق مع الولايات المتحدة وبعض الدول العربية؟ أليس هناك أوجه شبه بين "الجهاد الاسلامي" ضد السوفيات في افغانستان وبين "الجهاد العربي" ضد ايران.؟ أليست كلها حروب تخدم الولايات المتحدة ومصالحها؟ هل ينبغي للدولة القطرية العربية (مرة اخرى بموجب منطقها) ان تدفع فاطورة غباء نظام استدرج من قبل اعدائه ليقوم ويرتكب حماقات تجر عليه هذا الدمار؟ وفاطورة الحساب هذه ليست بضع مليارات من الدولارات، وانما قد يكون ضياع استقلالها (الشكلي) ومن ثم دمارها؟
وهل تمتلك الدول العربية من القوة غطاء يمكن ان يقي العراق ضربات القوى الشرسة التي تملكها الولايات المتحدة؟.. لقد وقفت غالبية الدول العربية (خطأ) الى جانب العراق في حربه على ايران، مع انه لم يأخذ رأيها او استشارتها .. وقف العرب مع العراق – خطأ – لأن في طاقة العرب الوقوف مع العراق ضد ايران .. لكن مع الولايات المتحدة فإن الأمر يختلف .. مع أن المصلحة العربية كانت تستوجب تجنب الصدام مع ايران، بل كان ينبغي إقامة علاقات تكاملية بين العرب وايران، بصفتها دولة اسلامية .. وهذا يبين ويؤكد غياب الخطاب السياسي العربي الواضح الأمر الذي جعلها تقف مواقف متناقضة ففي حالة ايران ساندوا العراق .. وفي حالة الولايات المتحدة خذلوه ..!! وهذا الوضع يكشف ويعري عجز المشروع القومي العربي كما ان الموقف من افغانستان كشف عجز مشروع "الجهاد الاسلامي" بصيغتها الصهيونية الامريكية ..
فالمشروعان يعانيان من وجود مرجعية ايديولوجية عقيدية ودينية واحدة وكذلك عدم وجود مرجعية سياسية واحدة. هذا الوضع مع أزمة الخليج يثير نفس الاشكاليات تقريبا التي اثارتها ممارسات القاعدة وطالبان في افغانستان – العراق باحتلاله للكويت والقاعدة بتبنيها الهجوم على نيويورك وواشنطن ...
وكما ان الدولة القطرية في امر الحرب والسلام لا ترجع الى منطق الأمة كما حدث عندما قررت القيادة المصرية إنهاء صراعها مع اسرائيل، فقد انطلقت من مصلحة دولتها القطرية .. مع ان القيادة المصرية بزعامة أنور السادات قد زار بعض الدول العربية المحيطة باسرائيل وأطلعهم على خطة للسلام وحاول اقناعهم واخذ موافقتهم، ليكون سلاما عاما بين العرب واسرائيل في ظل ظروف عالمية أكثر ملائمة من الظروف الحالية، حيث يستجدي العرب اليوم السلام مع اسرائيل وترفضه .. بل إن مسودة الاتفاقية بين اسرائيل والفلسطينيين كما جاءت في اتفاقية كامب ديفيد الاولى أفضل الف مرة من اتفاقيات اوسلو وغيرها حتى خارطة الطريق الأخيرة .. ومع كل ذلك فقد تغلب في النهاية موقف الدولة القطرية على موقف الامة بغض النظر عن صحة الموقف المصري او خطأه ...
ففي المحصلة النهائية، يبقى الفراغ في المشروع العربي والاسلامي ينتظر ان نملأه بمرجعية قيمية فكرية ودينية واحدة وبالمرجعية السياسية الواحدة .. ان غياب هاتين المرجعيتين سيبقى يحرج الوضع العربي والوضع الاسلامي طويلا .. وسيبقى هذا التناقض بين المنطق الذي تتحرك بمقتضاه سياسة الدولة القطرية وبين منطق الأمة العام – الذي ارتبك كثيرا وفقد الكثير من مصداقيته في العشرين سنة الأخيرة – والى ان يتم اعتماد مرجعية قيمية واحدة ومرجعية سياسية كذلك ستبقى الامة موظفة عند اعدائها لسنين طويلة قادمة.

الهوامش:
1. اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان (مسلم والبخاري) وضعه محمد فؤاد عبد الباقي – الاجزاء من 1 -3 – دار الحديث – القاهرة 1986 وهو من حديث الامام البخاري، الجزء الثاني – ص192-193.
2. صهيونية جديدة نفاثة، اوراق اسرائيلية، مجموعة مقالات: ايلان بابيه، توم سيغف ودون بونداك – مدار 2001 رام الله – فلسطين، ص26، 27.
3. المصدر السابق، ص28.
4. المصدر السابق، ص27.
5. المصدر السابق، ص28.
6. للإستزادة في هذا الموضوع انظر كتابنا: "المبني والمعرب في دنيا السياسة – الفصل الثاني والثالث، من ص75-191.
7. صهيونية جديدة نفاثة، ص30.
8. المصدر السابق، ص38.
9. المصدر السابق، ص23.
10. المصدر السابق، ص23.
11. مقالة للقس رياض جرجور – موقع عرب 48 – صفحة المسيحية الصهيونية.
12. المصدر السابق، ص2.
13. المقالة التي تبحث في الخبر الذي اورده المؤرخ المملوكي الشهير، شهاب الدين احمد بن عبد الوهاب النويري والمتوفي عام 733 هجرية الموافق 1333 ميلادية، في القرن الرابع عشر الميلادي في موسوعته التاريخية القيمة المعروفة باسم: "نهاية الأرب في فنون الأدب" (ص 459) والتي يؤكد فيها النويري العلاقة التي كانت تربط دولة المغول باليهود، حيث كان مؤدب ومربي جنكيز خان يهوديا. وهذا يؤكد ان الخلفية الثقافية التي كونت سلوكيات جنكيز خان ومن جاء بعده وحقدهم على المسلمين كان بفعل وبتأثير من الحاشية والبطانة اليهودية اتي كانت تحيط به.
14. هيهوديم بتربوت هرينسانس بايطاليا – ب روت 1962 – مصدر سابق. للاستزادة انظر كتابنا: المبني والمعرب في دنيا السياسة – مركز الحضارة العربية – القاهرة 2002 من ص273 – 300.
15. المستعربون الأوائل، ص17، 18.
16. المصدر السابق، ص50.
17. المصدر السابق، ص15.
18. المستعربون الأوائل الذي مضى على عملهم اكثر من خمسين سنة وسمح بنشر أخبارهم من الارشيف بالصورة والقدر الذي يخدم الفكرة المخابراتية الاسرائيلية.
19. المصدر السابق، ص52-59.
20. المصدر السابق، ص175.
21. المصدر السابق، ص176.
22. المصدر السابق، ص258.
23. المصدر السابق، ص268، 269.
24. المصدر السابق، ص306.
25. المصدر السابق، ص306.
26. المصدر السابق، ص308.
27. المصدر السابق، ص309.
28. المصدر السابق، ص312.
29. Anachronism وهو الوضع او العادة والفكرة، خارج زمانها وظرفها ولا تنسجم او تتساوق مع غيرها من الأفكار الراهنة، او مع وضع الفكرة ذاتها في الحيز المتغير.














الفصل السادس:
عدوان الولايات المتحدة ومستقبل العالم العربي والاسلامي:

من نظام الدولة القطرية الى نظام الاقطاعيات العرقية والطائفية – مركزية الدولة اليهودية:
كان من نتائج الحرب العالمية الاولى، وانتصار الاستعمار الاوروبي، بعث العامل القومي في الشعوب الاسلامية، في مواجهة القيم الاسلامية وروابطها، مما أدى الى تقسيم هذا العالم الى قوميات متصارعة، حتى أصبح التركي في مواجهة العربي والفارسي والكردي وأصبح كل قوم في مواجهة الآخرين. وتمّ بعد هذا تفريغ هذه الكيانات القومية من معانيها وقيمها الاسلامية وامتلأت نفوسها بالضغائن والاحقاد وتحركت فيها كوامن الشر نحو بعضها البعض .. فكان من نتائج ذلك:
1- تقسيم الكيان العربي الواحد الى كيانات متعددة، وقيام ما سمي فيما بعد بنظم الدولة القطرية على اسس قومية، واحتلت هذه الكيانات في غالبيتها قيادات مصنعة من مدرسة الصهيونية العربية .. ولهذا منعت قيام الوحدة العربية، التي كانت مطلب الجماهير العربية، وكان ينبغي ان يكون رد هذه القيادات على التقسيم الاستعماري لهذه المنطقة، لو كانت هذه القيادات بالفعل عربية. ولكنها راحت تلتمس عوامل الفرقة والتمايز وتكريس الانشقاقات على مستوى الدولة القطرية. وبهذه القيادات التي انتجها الاستعمار استطاع تفريغ المنطقة العربية من أسباب قوتها، وتكريس دوافع ضعفها وانحلالها. مما منع قيام الدولة القطرية القوية من جانب، ومن جهة أخرى منع امكانية الوحدة بين هذه الدول.
لقد صبر الاستعمار الاوروبي على "الرجل المريض" (تركيا) ما يزيد على مئة سنة قدم لها بالغزو الثقافي، وعمل على تخريب نسيج الأمة الاسلامية وبعث عوامل الصراع بين الكيانات التي كانت تتألف منها الدولة العثمانية .. صبر على وضع "الرجل المريض" حتى يزداد مرضا، وتتحل مفاصله، وتضعف الصلات بين هذه المفاصل المتنوعة .. وكان من نتائج هزيمة تركيا في الحرب العالمية الاولى، أن قامت عدة كيانات على اسس قومية .. وبقيت كذلك تزداد ضعفا وفرقة، حتى كان الربع الاخير من القرن العشرين، حين أصبحت الولايات المتحدة قوة مهيمنة على العالم، فرأت أن تجري تعديلا على روح اتفاقية سايس-بيكو .. بحيث يتم تفتيت الكيانات العربية الى اقطاعيات تقوم على أساس عرقي وطائفي حتى يسهل دورانها في فلك الدولة الاسرائيلية.
2- استطاعت الصهيونية العربية، اعاقة النهضة العربية والاسلامية بإفتعال الاختلافات وإظهار خصائص ومميزات لكل كيان من الكيانات العربية تمنع وحدتها. وكأن تلك الخصائص بين الدول العربية من العمق والاتساع بحيث يصبح من العسير التجسير بينها وكأن هذه الخصائص والاختلافات هي اعمق وأكبر من الخصائص والمميزات بين الدول الاوروبية .. الأمر الذي جعل العقل العربي والارادة العربية يواجهان معضلة ذاتية يصعب معالجتها وحل اشكالياتها خاصة مع غياب المرجعيات المعتمدة في حياة الفرد والأمة.
3- قيام الدولة اليهودية على ارض فلسطين ورعابتها، حتى أصبحت القوة الاقليمية الوحيدة في الشرق الأوسط. وباتت تتحكم بأوضاع المنطقة، على صورة تجعل الوجود العربي وتأثيره خال من امكانيات المقاومة الفعلية، فضلا عن الحديث على مستوى الصراع ومحاولات كسب الصراع .. لقد أصبحت الصهيونية العالمية تمسك بغالبية الخيوط التي تشدّ أطراف الصراع في المنطقة، وإمكانية توجيهها. فعلاقة أجهزة الدولة الاسرائيلية المتعددة بمركبات المجتمع العربي العرقي والطائفي، التي تشكل في كثير من الحالات ليس فقط السلطات الرسمية وإنما تشمل المعارضة أيضا والتي تشكل البديل للانظمة القهرية القائمة، وكما اسلفنا فإن العديد من هذه الأنظمة هي استمرار للصهيونية العربية مما يجعل الامر اكثر عسرا وتعقيدا، مما قد يجعل حجم التحديات التي تواجه العقل العربي والارادة العربية في رؤيتها للواقع من خلال هذا الركام الذي يجثم على المشروع العربي وصعوبة تحديد المعوقات وكذلك اشكاليات صياغة خطاب قومي او اسلامي واضح المعالم مهمة ليست سهلة. فليس من السهل ان يحدد المرء من اين وكيف يبدأ.؟
4- إن واقع الامة على الصعيد القومي كما هو على الصعيد الاسلامي والذي يؤثر أحدهما بالآخر يجعل الامر من الصعوبة بحيث لا تكفي ثورة عادية لتصحيح اوضاعه وانما الأمر يحتاج الى انفجار تغيراتي في مستوى الذات الفردية والاجتماعية انفجار في المجال المعرفي، وفي المجال القيمي الاخلاقي .. وعندما نقول انفجار فلأن التراكمات التراثية لعلاقات الشكوك المتبادلة وانعدام الثقة بين مجموعات الجماعات الطائفية والعرقية التي تؤلف النسيج القوي الاسلامي للامة، قد رانت على العقل العربي وطغت على الارادة العربية على مدى قرون عديدة. مما يجعل الغوص في الذات التراثية يعاني من الغموض في الوصول الى المعارف الحقيقية المكونة للمخزون التاريخي لهذا الوعي العربي وامكانية بيانه وشرحه ومن ثمّ فصل العواطف الزائفة والمشاعر الباطلة التي تكونت خلال هذا التاريخ الطويل، والتي أثرت تأثيرا في غاية السلبية على امكانية اعتماد مرجعية قيمية اخلاقية واحدة .. وكذلك اعتماد مرجعية سياسية واحدة .. ولهذا ليس سهلا محاولة تكوين مشروع فلسفي عربي نهضوي كما يحاول ذلك كلا من المفكر المغربي طع عبد الرحمن وأبو يعرب المرزوقي(1).. ينطلق من الأصلانية النقية للمعرفة العربية الحقيقية ويدفع لامكانية حضور الوعي الواقعي للأمة من اجل بناء رؤيا مستقبلية لهوية الأمة الثقافية والسياسية والأخلاقية.
5- الاستراتيجية الصهيونية الجديدة لا تكتفي بالواقع العربي المجزء الى دول وإمارات عاجزة ضعيفة، لا تقوم وحدها من غير دعم خارجي في كل احتياجاتها والتي تشمل معظم مرافق الحياة من زراعية وصناعية وعلمية وغير ذلك. ولم تكتف أيضا بتفريغ المنطقة العربية من أسباب القوة وإنما تسعى لتكريس هذا الضعف باعتمادها مناهج ثقافية وسياسية ودينية تعيد إنتاج اسباب صراعاتها الداخلية والخارجية باستمرار، حتى تبقى قواها العقلية والارادية والقيمية مستنفزة باستمرار. ولهذا يلجأ المشروع الصهيوني الامريكي الجديد – ونحن نضيف "الامريكي" فقط لأنه النص والحيّز الذي يتفاعل من خلاله المعنى الصهيوني المتحرك – الى تفتيت الدولة القطرية العربية، ككيان سياسي، بعد ان قام يتفتيتها وتفكيكها من ناحية الانتماء والهوية الثقافية والدينية .. فقد كانت الدولة القطرية تعاني من اختراقات عديدة في نسيجها الاجتماعي والثقافي والسياسي .. وما تسعى اليه الصهيونية في هذه المرحلة هو قيام إقطاعيات سياسية وثقافية تملأها المجموعات العرقية والفئوية متخاصمة فيما بينها حتى يتمّ اخضاعها والسيطرة عليها من قبل الدولة الاسرائيلية المهيمنة .. كيانات هزيلة جدا تحتاج دائما للدعم الخارجي لاستمرار وجودها، هذا الدعم المتمثل باسرائيل. حالة الضعف والعجز هذه تعيد استنساخ هذا الوضع باستمرار.


الكيان الكردي كغطاء اخلاقي:
عندما يتوفر للفرد او للدولة فائضا من القوة، فسوف تحاول إيجاد تحديات جديدة لممارسة نشاطها العدواني وتفريغ فائض القوة المتوفر والمتكدس لديها .. وهذا هو الفرق بين اعتماد واعتبار العقل مبدءا اساسيا ورئيسيا في تشكيل ماهية الانسان النوعية، فالعقل وهو يبني القوة ويجمعها ويكدسها في أطر معينة، قد يكون من الممكن التحكم بضوابط موجهّهة لحركة القوة، طالما ان هذه القوة يمكن استيعاب طاقتها في الأطر القائمة، ولكن إذا توفر فائض من هذه القوة غير مقدور على استيعابه فيما هو قائم وموجود من أطر، فسوف تتدفق كالسيول العارمة خارج الخزانات والسدود المعهودة والمألوفة لتغمر ما حولها .. وهذا الوضع هو ما نطلق عليه غرور القوة .. وطالما ان العقل ليس جوهرا كما رأى علماء المسلمين وفلاسفتهم، وكما هو في حقيقته، فهو يتكيف ويتطور وفقا للمناخ الاجتماعي والثقافي والأخلاقي السائد .. فإذا كانت البيئة قيمية واخلاقية، تعتمد مبادئ الحب والخير، فسوف يهتم العقل بتطوير هذه القيم والمفاهيم والأخلاقيات الى ما هو أفضل، لكن اذا كانت البيئة تقوم علىاسس النزعة الذاتية والأنانية الفردية فسوف يقوم العقل بتطوير قيم الجشع والطمع والفساد في المجتمع ..
وعلى عكس هذا المفهوم، يحصل عند اعتماد الاخلاق مركبا اساسيا في تشكيل ماهية الانسان ونوعيته، فإن الفائض الذي ينتج عن عنصر الأخلاق هي معايير الحب والرحمة والخير التي تشكل وتصوغ عواطف الانسان ومشاعره تجاه الآخر. ويقوم العقل بتطويرها وبتطوير نفسه من خلالها، مما يميز بين نمطين من الحياة: حياة المبادئ الاخلاقية التي تعتمد اسس العدل والحق والخير والحب، وحياة الجشع والحرص والرذيلة والشر.
ولهذا فإن من المتوقع ان تعتمد الولايات المتحدة مبدأ القوة والقهر في تعاملها مع الآخر، خاصة اذا كان هذا الآخر ضعيفا .. وترجمة ذلك في المجال السياسي يعتمد على تطوير اسس بقاء السيطرة الاستعمارية في المنطقة العربية والاسلامية مدة اطول، عن طريق تطوير معاهدة سايس-بيكو بحيث تتلائم مع الظروف المستجدة والقدرة على استيعاب المستجدات .. فإذا كانت سايس-بيكو قد أدت الى زرع الدولة اليهودية في فلسطين ورعايتها وتعهدها حتى أصبت قوة اقليمية مهيمنة وفي مقابل ذلك كرست الضعف والتمزق العربي وعملت على تفريغ القوة من كيانه. فإن المرحلة القادمة ستجعل من اسرائيل القوة الوحيدة المهيمنة في المنطقة، وهي مركز الثقل في الشرق الأوسط والى جانبها سوف تتعهد الولايات المتحدة ببعث كيان سياسي للشعب الكردي الأمر الذي حرمته منه سايس-بيكو الاولى .. والأكراد كأقليات مضطهدة في كل من العراق وايران وتركيا وسوريا وكردستان السوفياتي (سابقا) سوف يبقى بحاجة للدعم الامريكي والاسرائيلي مدة طويلة وهو ما تحتاجه الولايات المتحدة كموطئ قدم لها في المنطقة، ويمنحها ليس فقط حرية الحركة، بل حرية وامكانية التدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة بحجة دعم حق تقرير المصير للشعب الكردي، كغطاء اخلاقي لوجودها ولممارساتها. وسيبقى الأكراد يحتاجون امريكا بصفتها القوة التي منحتهم الحرية والاستقلال. ومعنى اقامة الدولة الكردية هي بحد ذاتها تفتيت للدول الاخرى القائمة وإضعاف لها .. هذا الى جانب رعاية أقليات وطوائف اخرى حتى تجعل من هذا الشرق مجموعة نظم اقطاعية للسيطرة الاسرائيلية المباشرة .. وهذا يتيح للولايات المتحدة:
1- ذريعة من اجل البقاء فوق آبار البترول، تسرقها من خلال حراستها وبطلب من الأكراد الذين سيشعرون دوما للحماية الامريكية والاسرائيلية .. خاصة بعد أن أصبح الناس في الشرق الأوسط لا يفرقون بين حرية تقرير المصير والاستقلال وبين العمالة للآخر الاجنبي، والسبب في ذلك كثافة الضباب وعدم وضوح الرؤيا المتسببة عن تلك العلاقات السلبية والشكوك المتبادلة، والكراهية المتراكمة جيلا بعد جيل بين الأقليات العرقية التي تسكن الوطن الواحد وهي الشكوك التي غذاها وما زال يغذيها الاستعمار الصهيوني والغربي منذ ما يزيد عن مئة وخمسين عاما.
2- توظيف القضية الكردية في معادلة الصراع الاقليمية، بحجة منحهم حق تقرير المصير كما أشرنا، فالأكراد هم الفئة التي ظلت مغبونة ما يزيد على ثمانين سنة منذ نالت بعض شعوب المنطقة استقلالها الصوري .. لكن في الواقع وفي حقيقة الأمر فقد حان الوقت لتوظيف القومية الكردية في خدمة أهداف ومصالح الاستعمار الغربي، خاصة بعد ان عبأت الصهيونية النفسية الكردية حقدا وكراهية على دول المنطقة وشعوبها كالعرب والايرانيين والاتراك.
وغرور القوة لدى الادارة الامريكية هي التي سوف تجعلها لا تقيم وزنا كثيرا لدول المنطقة وهي تقوم برسم حدودها من جديد .. وعلى الرغم من النفي العلني الامريكي لإقامة دولة كردية .. فسوف تظل القضية الكردية احدى بؤر التوتر التي سوف تستغلها الولايات المتحدة في الوقت الذي تختاره ضد أي نظام من أنظمة المنطقة .. والقضية الكردية ليست الورقة الوحيدة التي تلعب بها الولايات المتحدة .. فهناك الأمازيغية في شمال افريقيا يبعثها الغرب الاستعماري في مواجهة مع القومية العربية.
وفي تقديري فإن الدور الكردي المستقبلي سوف يحل مكان الحصان التركي الذي تظهر عليه آثار الشيخوخة، وقد استنفذ طاقته في جر عربة الاستعمار والصهيونية هذه المدة الطويلة .. وفي تقديري كذلك فإن الهيمنة الاسرائيلية لا تطيق الى جانبها قوة حتى وان كانت في يوم سابق بموقف الحليف. فإسرائيل تريد منطقة مفرغة من كل قوة، لن توقع سلاما مع سوريا من غير عملية تفكيك لقوتها التي لا تشكل خطرا ما على اسرائيل، وكذلك الأمر بالنسبة لتركيا، فتركيا هي دولة مسلمة من حيث سكانها مئة بالمئة فعدد المسلمين يزيد عن 99.98% هم مسلمون بينما 20% اكراد و 8% عرب سوريين(2)، ولن يكون مستغربا ان يمنح هؤلاء حقوقا على حساب تركيا، بحيث يقتطع منها ما يزيد عن 30% لصالح هذه الأقليات.
فالوضع الاقليمي، بعد سلسلة الاحداث التي حصلت قد تغيرت استراتيجية:
أ- انهيار الاتحاد السوفييتي، والتي كانت تركيا موقعا استراتيجيا في معادلة الصراع الدولية، فهي تصل الى البحر الأسود، وفيها معابر البحر الأسود الى المحيطات، وكذلك فإنها تحدّ كلا من العراق وسوريا الدولتان الحليفتان للاتحاد السوفييتي السابق.
ب- وبعد احتلال افغانستان والوجود الامريكي في بعض الدول الاسلامية التي كانت تابعة للاتحاد السوفييتي.
ج- وبعد احتلال العراق وشبه الجزيرة العربية من قبل الولايات المتحدة لم يعد هناك حاجة لعبء الصداقة التركية ..
3- القضية الطائفية: والتي تؤكد عليها الولايات المتحدة منذ زمن طويل. فالشرق الأوسط، بكونه مهد الحضارات، ومهبط الرسالات الدينية، فإن نسيجه القومي والاجتماعي والعقائدي يتألف من الديانات التوحيدية الثلاث، الى جانب ديانات غير ذي بال .. وقد استطاع الاستعمار الغربي والصهيونية العربية واليهودية والمسيحية بلبلة هذه العلاقات وإرباكها واحراجها في فترات كثيرة. وهي ترنو الى اليوم الذي تستطيع فيه تخريب هذه العلاقات الطيبة التي تبادلتها هذه الديانات لقرون عديدة، وكل ذلك بهدف إحداث خلل في النسيج الاجتماعي والسياسي .. فالصهيونية اليهودية استطاعت التسلل للمجموعات اليهودية في العالم العربي والاسلامي ونجحت في تأليبها على المجتمعات والشعوب التي احتضنتها آلاف السنين، واستخدمت في خداعها وتضليلها قوى من الصهيونية العربية والمستعربين اليهود في زرع الخوف لديها لحملها على هجرة اوطانها والالتحاق بلصهيونية الاستيطانية في فلسطين.
1:3 وقد حاول الاستعمار الغربي بعث الشك والريبة في نفوس المسيحيين العرب ضد الاسلام والعروبة. ونجح في تجنيد قلة من هذه المجموعات وضم بعضها لصفوفه لتعمل ضد مصالح القومية العربية بالذات. والمسيحيون العرب الذين كان لهم دور رئيسي وريادي على الصعيد السياسي والأدبي في بعث اللغة العربية وآدابها.
2:3 وقد كرس الاستعمار والصهيونية جهودا مضنية لبث الفرقة في صفوف المسلمين، وحاولة تخريب نسيجهم الاجتماعي والثقافي والديني وتحريك روح الانفصال بين طوائفه وملله .. وجعل كل طائفة تتربص بالأخرى، وتكيد لها .. الأمر الذي أضعف قوة المناعة لدى المسلمين في مقاومة موجات الغزو التي اجتاحت الشرق العربي. الأمر الذي ساعد في تأخير انجاز مشروع نهضتهم.
3:3 الانقسام بين سنة وشيعة وإشعال الحروب بينهما .. والتي كان آخرها الحرب العراقية-الايرانية والتي استمرت ثماني سنوات وحصدت مئات الالاف من الضحايا من كلا الجانبين، وعمقت اسباب الصراع والنزاع. وقد استفاد الاستعمار في توظيف هذه الحرب، لتفريغ المنطقة من دواعي التعاون والتفاهم بين دول المنطقة امام المدّ الاستعماري الجديد، وقد طال الأمر بعض الدول العربية كسوريا ولبنان، فالنظام البعثي تحت القيادة العلوية في سوريا فهو في تماس داخلي مع محيط الدائرة الشيعية. حتى ان الطائفة الدرزية في حالة تماس مع المحيط الخارجي للدائرة ذاتها. ولهذا نرى الدكتور محمد خاتمي رئيس الجمهورية الاسلامية في ايران والذي قام مؤخرا بجولة تنسيقية مع الدول ذات الانظمة التي لها علاقة ما بالفكر والمعتقد الشيعي: كسوريا، ولبنان، واليمن (الزيدية) والبحرين.
4:3 تحاول الصهيونية والولايات المتحدة اللعب على ورقة الشيعة العرب في مقابل الشيعة في ايران، ومحاولة بعث المشاعر القومية الدينية بين المرجعيات والحوزات العلمية الشيعية في كل من العراق وايران للتنافس فيما بينها، حتى تمنع تشكيل نموذج حزب الله بصورة أوسع في العراق، وانتشار ظاهرته في العديد من الدول العربية والاسلامية.
5:3 تأجيج نار العداوة الطائفية والعرقية في البلاد العربية والاسلامية حتى تنعدم الثقة وامكانيات التعاون، وتكريس مبدأية التهمة بين طوائفه ومجموعاته العرقية.
4- تعميق المشاعر الخصوصية لدى المجموعات العرقية والطائفية وتغذية روح الانفصال عن الهوية القومية من جهة أو الهوية الاسلامية .. خاصة ما كان في الفترة الاخيرة من تصنيف بعض هذه المجموعات كإرهابية متطرفة او معتدلة ومحبة للسلام .. وهي تصنيفات اعتباطية تتمشى مع الرغبات الصهيونية المتقلبة. وهكذا يتم تحييد بعض قيادات المجتمع وملاحقة قطاعاته الأخرى حتى باتت الأمة تتحرك كمجموعات وقد ضعفت الروابط والأواصر بينها وقد أضحى بعضها يشمت ببعض، ويتربص ضعيفها بقويها، وتتسابق لإرضاء الصهيونية وموالاة الاستعمار الغربي.
5- إضعاف مركزية الدولة القطرية، لصالح إقطاعات محلية عرقية وطائفية متنافرة في علاقتها. بحيث تضعف وتنكمش سلطة الدولة القطرية التي تعهدها وتضعف سيطرتها على مناطق نفوذها. وتصبح علاقاتها بتلك الاقطاعيات علاقات هشة ويصبح دور عاصمة البلاد كدور عاصمة الخلافة العباسية في فترات ضعفها وانحطاطها، حيث كان يتم تنصيب الخليفة او خلفه كما يصف ذلك الشاعر بقوله:
خليفة في قفص بين وصيف وبغا
يقول ما قالا له كما تقول الببغا
ووصيف وبغا حاجبان تركيان. ولا ادلّ على ضعف نفوذ الدولة القطرية وإذعانها لمطالب الصهيونية والولايات المتحدة من الاجراءات التي قامت وتقوم بها السلطات السعودية واليمنية وغيرها بتحريض من الولايات المتحدة الامريكية بحملات تطهير واسعة ضد العلماء الرافضين للوجود الاستعماري في شبه الجزيرة العربية .. ويحاول النظام الرسمي العربي تأجيل قول الولايات المتحدة فيه وتأخير تقديم لائحة اتهام ضده ما وسعه ذلك، فلوائح الاتهام ضد هذه الأنظمة مكدّسة في ملفات تنتظر ساعة عرضها .. فالسعودية على سبيل المثال، تحاول فك الارتباط بين نظام الحكم وبين المذهب الوهابي، هذا الارتباط الذي رافق الحكم السعودي طيلة فترة حكمه. بحيث يمثل الوهابيون البعد الديني والأخلاقي الذي يستند اليه الحكم والنظام السعودي، وبصفتهم ركيزته الفكرية والعقائدية .. وقد باتت مطالب الولايات المتحدة الموجه من الصهيونية تتدخل من أجل تغيير ثقافة العرب والمسلمين وتراثهم. حتى بات عالم كأحمد بن حنبل، يوصف بالمتشدّد والمتطرف، ومعنى ذلك فإن تعاليمه باتت مصدر إرهاب حسب تعريف القاموس الصهيوني الاستعماري. وهكذا يمكن ان ينسحب القول على كثير من العلماء كإبن تيمية وغيره .. وإذا استمر الوهن والعجز والضعف يسكن قلب الأمة، فلن يكون بعيدا ذلك اليوم، الذي تطالب فيه الإدارة الامريكية الموجهة بتغيير او تعطيل بعض نصوص من كتاب الله .. والذي تفوّه به أمير قطر قبل الاستفتاء القطري على الدستور هذا العام مؤشرا واضحا على صحة ما نذهب اليه، فقد اتهم هذا العلج الوهابية بالتطرف والتعصب، ولم يخجل هذا المبرمج امريكيا من التطاول على الامام احمد بن حنبل بالتهمة نفسها في خطاب عشية يوم الاستفتاء وليس معنى كلامي، ولا ينبغي ان يفهم، أني أنزه بن حنبل وابن عبد الوهاب عن النقد لهما وتقييم تراثهما الفقهي، فهذا حق لعلماء الأمة ومفكريها .. لكننا لا نقبل توجيهات اعداء الأمة في نقد تراثنا الفقهي .. فهذا سقوط وانحطاط لا ينبغي للأمة ان تقره بحال من الأحوال .. لقد أضحى "جحوش الاستعمار" كما وصفهم الصحاف، وزير الاعلام العراقي السابق – يطالبون بتعديلات لدين الاسلام كما تراه الصهيونية واستعمارها الغربي .. إن الضغط باتجاه تعديل وتحريف عقيدة الأمة لا يترك لها خيارات وبدائل يمكن ان تلجأ اليها، إن محاولة احتلال قلب الامة سيحدث ذلك الانفجار الهائل الذي تحدثنا عنه، وهذا الانفجار سيكون ضد كل السلوكيات المنحرفة والمزيفة عبر التاريخ، إنه الانفجار الكبير الذي يزيح هذا الركام من حول كتاب الله العظيم، كتاب الأمة الخالد.
6- مركزية الدولة اليهودية ومحاولتها تفكيك القوة الامريكية:
بعد ان يتم تفتيت الدولة القطرية الى اقطاعيات متنافرة ومتخاصمة تتقوى تلقائيا من مركزية الدولة اليهودية، بحيث تصبح دول الشرق واقطاعياتها مناطق ريفية تعيش على هامش المركزية اليهودية، صاحبة النفوذ والكثافة النوعية العالية التي تدور في فلكها تلك الاقطاعيات العربية والاسلامية .. وليس من الغريب ان تفكر اليهودية الاسرائيلية بمحاولة نقل مركز ثقل اليهودية العالمية الى منطقة الشرق الأوسط، ويحتل بهذا المعنى اليهودي نصا جديدا يتحرك من خلال بعثه وتحريك امكانياته وطاقاته المخزونة الهائلة ... مع ان خطوة كونية كهذه لا بد ان تسبقها خطوات قد جرى الاعداد لها منذ فترة وهو محاولة ولوج النص الآسيوي ممثلا بالصين والهند. والذي يجري بالتساوق والتوازي مع عملية تفكيك للقوة الامريكية بزجها في خوض صراعات غير محسوبة بدأت ولن تنتهي إلا بهزيمة الولايات المتحدة التي تخوض صراعا في طول العالم وعرضه، ضد الانسان بما هو إنسان يعيش لحريته وكرامته.
إن الدور الذي رسمته الصهيونية اليهودية بالتحالف مع المسيحية الصهيونية لتوجيه سياسة الولايات المتحدة بعد تمكنهم من اغتصاب قرارها السياسي بعد ان تمّ الاحتواء الفكري لها والمتمثل فيما أطلق عليه: "النظام العالمي الجديد" او "العولمة"(3) إن هذا الوضع يملي على الولايات المتحدة الامريكية كقوة كبرى وحيدة تنظيم امور هذا العالم، وفق ما ترتئيه في المجالات المختلفة السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية .. لقد وضعت القوة الفائضة بين أيديها امكانية التدخل في امور العالم ومحاولة صياغة أنظمته المتعددة وفق مصالح الجماعات المتنفذة في الادارة الامريكية ولمصلحة الشركات المتعددة الجنسيات التي تتحكم بإرادتها، بل التي ترسم السياسة للحزبين الجمهوري والديمقراطي في المجال السياسي والاقتصادي بشكل خاص(4). الامر الذي يضيف اليها مسؤوليات وتبعات كثيرة ومتعددة، ويجعل منها أجهزة دائمة العمل والسهر ترصد كل خطوة في طول العالم وعرضه حتى تقوم بتقييمها ومحاسبتها. وهذا ما سوف ينهك قواها العسكرية والاقتصادية ويحاصر جهودها السياسية بعد ان نفذ مخزونها الاخلاقي في حروبها غير العادلة التي خاضتها وما زالت تخوضها ضد شعوب العالم .. بحيث أصبحت اليوم لا تخوض صراعا مع أنظمة ودولا ومعسكرات محددة .. بل تعدت ذلك لتخوض حربا واسعة ضد الجماعات والافراد .. أصبحت تخوض صراعا ضد أهداف غير محددة او مرئية. الامر الذي يعمل على بعثرة طاقاتها وجهودها في ملاحقة اعداء وهميين قد شاركت هي نفسها في تشكيل وصياغة العديد منهم. هذه الصراعات الممتدة على طول العالم وعرضه، بما فيها البيت الامريكي نفسه، ويمتد ليشمل التعرض للافراد والجماعات، هو الذي سوف ينهك قوة الولايات المتحدة .. ومن لا يعمل ويتحرك ويصوغ نشاطاته وفق منطق معين ومحدد ومعروف فهو يتحرك نحو نهايته .. إنه يتدحرج ككرة فقد لاعبوها السيطرة عليها .. لأنهم لا يسيرون بمقتضى لعبة بعينها، بل تتحكم بحركتهم ونشاطهم قوة فائضة من غير منطق، إنها مرحلة غرور القوة وغرور العظمة. ولا أدل على ذلك من تبني سياسة: من لم يصطف في الطابور من خلفي فهو ضدي، ومن كان ضدي فسوف أحاربه بكل قوة .. إنه منطق فرعون حين استخف قومه فأطاعوه ثم عبدوه وانتهى الأمر بفرعون كما سينتهي ببوش "فأخذه الله نكال الآخرة والاولى". وهذا تخط لعقلية السوبرمان و"سوبر بوار" Super Bower الى ما هو فوق المألوف Beyond Superiority.

العولمة:
ويقول جورج طرابيشي في معرض حديثه عن العولمة بصفتها مسألة خلافية قد يقف ضدها قوميين وماركسيين وأصوليين. ولهذا فلا يمكن تصنيف المنتصرين لها على أنهم لبراليون بالضرورة، وكذلك فإن المعارضين لها ليسوا محافظين في الضرورة. وسوف نسوق فيما يلي نماذج من مواقف بعض المفكرين الغربيين والعرب من موضوع العولمة، كما اورده جورج طرابيشي في كتابه المشار اليه اعلاه:
1- لقد أصدر باتريك بوكانان، وهو من زعماء الحزب الجمهوري، وكان أحد مرشحيه المحتملين للانتخابات الرئاسية في امريكا كتابا تحت عنوان: "جمهورية لا امبراطورية" ينتصر فيه للنزعة الانطوائية، والتي هي سمة ثابتة في النموذج التاريخي الامريكي .. وفي رأيه الذي يحذر فيه من دور الشركات المتعددة الجنسيات والتي تعتبر في رأيه المحرك الأول للعولمة، بل الوحيد، ويحذر بسيطرتها على الولايات المتحدة وتحكمها بمفاتيح الحزبين الجمهوري والديمقراطي.
2- وكمثال آخر للمعارضين ما نشر في الأدبيات السياسية الفرنسية في العقد الاخير من القرن العشرين:
1:2 فيفان فورستير حمّلت مبدأ العولمة كل مظالم الزمن الحاضر تحت اسم "الفظاعة الاقتصادية".
2:2 بينما ألان مينك قد ردّ على ذلك بكتاب تحت عنوان "العولمة السعيدة".
3:2 فيليب مورو كتب بشارة العولمة في كتاب "نهاية الحدود".
4:2 بينما سير لاتوش لم يقرأ العولمة إلا بكونها طبعة جديدة من "تغريب العالم". وقد كتب هجوما لاذعا ضدها تحت اسم "مخاطر اقتصاد كوني".
3- وقد عقدت ندوة تحت عنوان: "هل للعولمة روح" ضمت ثلاثين شخصية من رجال المال والاقتصاديين واللاهوتيين، وأهل الاختصاص في الديانات العالمية التوحيدية وغير التوحيدية: كالنصرانية، والاسلام واليهودية، البوذية، الكنفوشيوسية، الهندوسية، والماسونية. وقد اختلف المنتدون حول مدى "القيمة الروحية للعولمة" وحول مدى الفرصة التي تتيحها على توليد "نظام اخلاقي عالمي جديد".
4- وأما المفكرون العرب فهناك شبه اجماع على تناول العولمة باسلوب يتراوح بين "المؤامرة" و"الكارثية" ومن بينهم من يصرخ بها علانية وجهارا ومنهم من يعرضها بمرادفات لغوية.
1:4 محمد عابد الجابري يرى في العولمة نفيا جذريا للوجود القومي الكلي من خلال تدميرها للمقولات الثلاث لهذا الوجود القومي: الدولة، والأمة، والوطن.
2:4 واما اعتدال عثمان فلا تتردد في وصف العولمة بكونها: "لعبة مميتة" والمرشح للموت الانسان نفسه.
3:4 الباحث المصري سيد البحراوي، يضيف الى فكرة "موت الانسان" موت المثقف، نهاية الدولة، نهاية القوميات، موت الايديولوجيا .. وغيرها من النهايات.
4:4 محمود أمين العالم يرى ان العولمة هي "نهاية التاريخ، نهاية الجغرافيا، نهاية الايديولوجيات، نهاية المفاهيم، نهاية الاشتراكيات، نهاية الفلسفة، نهاية الثقافة"، ثم يضيف متهكما: "العولمة هي النهاية النهائية للنهائيات جميعا".
5:4 في نظر المصرية يمنى الخولي التي تشتهر في مجال "فلسفة العلوم" فإن العولمة هي مؤامرة لغوية، وهي ترى ان الوجود العربي هو وجود لغوي، فإن المؤامرة على لغة العرب هي مؤامرة على الوجود العربي، فالعولمة "هجمة شرسة تشنها الحضارة الغربية لقهر اللغة العربية".
6:4 والمثقف العربي الأكثر تطرفا هو المصري حسين أحمد امين الذي يتبنى منطق المؤامرة لفظا ومفهوما عن العولمة.
7:4 وبرهان غليون المفكر السوري من جامعة السوربون في فرنسا يرى في العولمة "الاسم الحركي للأمركة".
8:4 وأما مطاوع صفدي المفكر السوري ينحو الى المرادفة بين العولمة وبين ما يطلق عليه اسم "إمبريالية المطلق" وهي كلمة ملطفة للهجوم الشامل على جميع دول العالم لإخضاعها لإدارة الرأسمال الكبير، الذي تحول الى رأس مال صناعي، الى رأس مال مالي مجمع لثروات فلكية هائلة، هذه الثروات تستطيع ان تنتقل في الزمن الفعلي في لحظات، من مكان الى مكان فتدمر الاقتصاد القومي في لحظات، وتستطيع ان تهاجم اي مجتمع فتفرغة من ماله وتنتقل الى مجتمع آخر، حتى لا يبقى في العالم غير حكم المال. وهذا المال بيد فئة قليلة، تشكل دولة فوق العالم أجمع، هذا هو نظام العولة كما يتحقق.
9:4 وأما المغربي عبد الإله بلقزيز في تعريفه للعولمة فيقول: "إنها فعل اغتصاب ثقافي وعدوان رمزي على سائر الثقافات".
هذه عينات بسيطة من موقف المثقفين العرب وغير العرب من قضية العولمة، والعولمة كما وصفها البعض وبحق بأنها الاسم الحركي "للأمركة" بينما الأمركة ما هي الا النص الذي يتحرك من خلاله المعنى اليهودي المتجول. فعندما نقول "المسيحية الصهيونية" او "الصهيونية العربية" فليس معنى ذلك ان هناك مسيحيين اصليين قد تصهينوا، او عربا أقحاح قد باتوا صهيونيين، وإنما الحديث عن قيادات فكرية يهودية استطاعت ان تنتج خطابات تتلبس بها على المسيحية وعلى العروبة او الاسلام، او غير ذلك .. إن من يستطيع ان يخترع لغة رمزية لا يفهمها غير اليهودي، لا يعجزه بلورة خطاب فلسفي فكري او سياسي او ديني. قد يتجمع حوله من البشر العاديين الذين لا يستطيعون تمييز الأصول الثقافية وتعدد هوياتها وقسماتها ومفاصلها. وإذا قلنا في مكان آخر ان اليهودي المتجول هو بشكل من الأشكال عبارة عن معنى او مفهوم يتحيز في نصوص متغيرة. انظر: باول ايدلبرغ: سياسة يهودية أو تنهار اسرائيل – القدس 2000 ص19: حيث يرى ان "وطنهم المتجول" هو التوراة، فتكسبه سرعة الحركة والانتقال. بل إنه يكتسب في النهاية حركة ذاتية كالأصلي تماما. مع ان قابلية التغير تصبح لديه صفة ملازمة .. وهذا ما يجعل مهمة الكتابة عنه وملاحقته امرا في غاية الصعوبة .. بل قد يظل في نطاق التخمين والظن ينتظر القرائن الكثيرة لتزيد من اكتشافه وتعريته وتقريبه شيئا فشيئا من المعرفة اليقينية.


اليهودية وسرقة الهوية الثقافية للآخر:
سبي اليهود مرتان في التاريخ، في المرة الاولى كان السبي ممثلا بشخص نبي الله يوسف، عليه السلام، حين فرّط به إخوته وباعوه الى مصر وحيدا. وقد ظلَّ محافظا ومتمسكا بدينه وبهويته الدينية، يدعو اليها. وبقي الحبل موصولا بينه وبين الله، يبلغ رسالة ربه في كل أحواله، في السجن كما هو في بيت عزيز مصر. الى ان التحق به إخوته، وعاشوا في مصر مئات السنين. كان هذا السبي قسرا بما يتعلق بنبي الله يوسف، وهو كيد ومكر داخلي في المجتمع الاسرائيلي المتمثل يومها ببيت يعقوب، عليه السلام، فقد أخرجهم الله من بلادهم وعاشوا في مصر مكرمين بكرامة نبي الله يوسف. وبقوا على هويتهم الدينية متمسكين بها ردحا من الزمن، حتى جاء موسى، عليه السلام، وأخرجهم من مصر. ومكن الله لهم في الأرض على عهد نبي الله داوود ومن بعده ولده سليمان عليهما السلام. وظلت هويتهم الدينية بارزة وواضحة يدعون اليها، حتى انحرف المجتمع الاسرائيلي وراح يكيد بعضه لبعض مرة أخرى، وتخلفوا عن دينهم وتعاليم أنبياءهم، حتى خاطب الله، سبحانه، اورشليم ووصفها ب"الزانية" وبعث عليهم في المرة الثانية من سباهم الى بابل .. في المرة الاولى عاشوا مئات السنين وحافظوا على هويتهم الدينية والقومية. لكن العجب كل العجب، أن يلاحظ المرءُ، أن اليهود لا يندمجون مع الآخر بحيث ينسيهم ذلك هويتهم، ويتدفقون كغيرهم من البشر في نهر الحياة الانسانية المتدفق. وعلى الرغم من حركة التاريخ المتسارعة يبقى اليهود محتفظون بتمايزهم وخصوصية هويتهم، بينما غيرهم من الأمم صاحبة الحضارات الكبرى تذوب وتنصهر مع غيرها، وهم مع كونهم اقليات ملاحقة يصمدون لكل ظروف التاريخ المتغيرة .. الأمر الذي حذا بالدلايلاما عند زيارته لإسرائيل ليصرح إنما جاء ليتعلم من اليهود هذه الميزة وهذه الخاصية، كيف حافظوا على هويتهم.؟
ومع ان هذه الظاهرة تكاد تكون فريدة في التاريخ البشري، وينبغي ان تثير اهتمام المؤرخين وعلماء الاجتماع التاريخي، لدراسة هذه الظاهرة ومحاولة الاجابة او ايجاد تفسير لنوعية العلاقة التي تربط اليهودي بالآخر ..!؟ وعلى أي أسس وبأية دوافع تتم عملية المقاومة ضد روح الاندماج العامة بكونها ميزة يكاد يجمع عليها التاريخ البشري. خاصة تلك الجماعات والاقليات التي تعيش خارج حدود بلادها. وتفقد أحد أهم مكونات تمايزها وهو الجغرافي وكثافتها الديموغرافية، التي تحافظ بها على مخزونها التراثي وتواصلها اللغوي والتراثي .. ما الذي يساعد عائلة ملاحقة على سبيل المثال ان تحافظ على هويتها الخاصة والتي تسبب لها الملاحقة والاضطهاد من قبل الآخر، كما حصل في تاريخ اليهودية .. هل تحوي الطبيعة اليهودية او الجينات الخاصة صفات النفور من الآخر وعدم القدرة على الاندماج والانصهار به.؟ هل هناك رفض داخلي جواني للآخر؟ هل من الممكن ان يكون من بين هذه الأسباب والدوافع الشعور بالعلو والسمو الذاتي قياسا مع الآخرين؟ وقد تمّ تبييت وتبيئة هذه المشاعر في مكونات الذات اليهودية، حتى أصبح اليهودي يؤمن ايمانا راسخا انه شيء يختلف، وبأنه نموذج لا يتكرر، وقد ظلت "الأنا" اليهودية تعلو وتسمو، حتى وصلت الى درجة تقديس الذات ومن ثم عبادتها. وتقديس الذات لذاتها يجعلها ترى ان من حقها على الآخرين تقديسها وخدمتها. يقول المفكر اليهودي مارتن بوبر: "بأن الانسان المعاصر لا يستطيع الايمان بالله وبعظمته، ولهذا فإنه يؤمن بالأنا الشاملة لذاته ولشعبه، كوجود متعال ولا وجود لمتعال غيره .. وهكذا يجعل من شعبه إله متعالي ... وإذا لم تكن روح اسرائيل المتعالية في عيوننا وقلوبنا، وإذا لم تكن شخصية شعبنا الافتراضية في مصداقيتها المتعالية بذاتها الجماعية .. فنحن إذا سنكون مثلنا كمثل الغيار (الجوييم) ونشرب معهم سوية من الكأس المسمومة".(5)
ونحن لا نستطيع ان نحدد بدقة ماذا يعني بوبر بالكأس السامة التي شرب منها كل البشر؟ ولكنه بالضرورة سيكون أمرا يختلف فيه اليهود عن غيرهم .. قد يكون هذا الأمر – كما اشرنا سابقا – يتعلق بتقديس الذات اليهودية وعبادتها وشعورها بالاستعلاء على الأغيار..!
وسُبي اليهود في المرة الثانية بعد ان انحرفوا عن تعاليم الله، وهجروا تعاليم التوراة وأحكامها. وما زادهم هذا السبي إلا اصرارا داخليا ذاتيا جوانيا على جحود تعاليم الله، وكأنهم يشعرون بتفوقهم على منهج الله .. وشعورهم بالندية المتعالية أوجب عليهم انتاج رسالة يكون منهجها مختلف. إنها رسالة لا ربانية، رسالة من وضع الانسان، حين احتل الانسان في وعيهم ما كان لله .. إنها رسالة فكرية لا دينية. رسالة من وضع الانسان، مهمتها ابعاد الانسانية عن دين الله، كرد فعل لعقاب الله لهم .. وانتهت بهذا مرحلة كان لليهود فيها هوية دينية متميزة يجاهرون بها ويدعون الناس اليها(6) .. وبدات مرحلة التكتم والانغلاق على الذات، والتلبيس على الآخرين، عن طريق انتحال ثقافة الآخر مع تمايز داخلي متعال وتماه صوري ظاهري مع هذا الآخر .. وهكذا أخذوا ينتجون ويبدعون أفكارا وثقافات يهودية بقوالب وأدوات غير يهودية.
وباتت اليهودية على فرقتين رئيسيتين:
الاولى: فرقة ظلت تحمل خطاب التوراة، ورفضت كل الرسالات التي جاءت من عند الله كرسالة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام .. وهو رفض متعال لما جاء به غيرهم، حتى وإن كان من عند الله .. وهؤلاء المتدينون يرون انه ليس لله حقا في تجاوزهم الى غيرهم من الأمم.!! فهم ابناء الله وأحباؤه .. وكأن عبادتهم لله مشروطة، فيعبدون الله على شرط ان تتوقف عبادتهم على ما جاء في التوراة من طقوس ومناسك .. وكان من بينهم من تلبّس على الديانات الأخرى بغرض إفراغها من عقائدها كما حصل مع الاسلام والنصرانية ..
الثانية: رفعت العقل اليهودي والذات اليهودية الى مصاف الألوهية، واستغنت بذلك عن فكرة الله .. وكان من بينهم من استطاع سرقة هوية الآخر، وتلبس على ثقافته. وراح يبدع أفكارا تستند في جوهرها على عقائد اليهودية وتختلف في قشرتها الخارجية، حتى يكون من الصعوبة تمييز ذلك وملاحظته عند كثير من اهل الاختصاص، فضلا عن ان يستطيعه العوام. ومن بين هذه الفئة، فئة حافظت على هويتها اليهودية وتمايزها مع اعتناقها لمبادئ لا دينية وسوف نسوق بعض النماذج والقرائن التي توضح المنهاج الذي سلكته وتسلكه اليهودية في ابلاغ رسالتها. من بينها:
1- المبدأ الأخلاقي عند الفيلسوف اليهودي الألماني هريمان كوهين: في الجدل العنيف الذي جرى بين مارتن بوبر وبين هريمان كوهين في قضية انصهار اليهود واندماجهم في البلدان التي يعيشون بها . هريمان كوهين يرى ان الانصهار القومي التام هو ضرورة والتزام اخلاقي. وفي رايه، فإن اليهودي الذي انصهر بغيره يحرم عليه ان يبقى في قلبه ذرة للشعور القومي اليهودي. إن الشعور القومي المزدوج هو امر لا اخلاقي وغير ممكن"(7). يظهر ذلك بوضوح في البحث الذي نشره عام 1880 تحت اسم: "بيان في المسئلة اليهودية" وفيه يحاور تريتشكي ولاتصاروس ويبرهن لهذا الأخير على أنه لم ينصهر كما يجب، لأنه لا يعترف بضرورة الانصهار والذوبان كما التزم شعب اسرائيل. ويرى ان على اليهود ان يحبوا ويعملوا على الانصهار من خلال المعرفة من جيل لآخر لتحقيق مثال الانصهار القومي. وفي رأي كوهين يعتبر القومية وسيلة انتروبولوجية لاستمرار النشاط الديني. القومية تختلف عن الأمة بصورة غائية .. فبينما القومية حقيقة طبيعية فإن الأمة هي انتاج الدولة. ومع أن كوهين لم يخرج ضد وجود القومية اليهودية، ولكنه عارض اعلان الصهيونية عن قيام أمة يهودية. ومن هنا خرج ضد النظرية الصهيونية ونشاطها الذي يسعى لإقامة وطن يهودي، لأن هذه الآمال والتطلعات تنتقص من حب الوطن عند هؤلاء اليهودي الذين وجدوا وطنا لهم (في البلاد التي يسكنون فيها). وفي هذا السياق ومن المنطلق ذاته فقد عارض أيضا إحياء اللغة العبرية، كلغة محكية، غير دينية علمانية. وهو يرى ان العبرية أرفع من ان يتداولها الناس في حياتهم اليومية، بل يرى اقتصار اللغة العبرية على مناسك الصلاة .. ولهذا كان يرى ان دور اليهودي ورسالته هي فوق قومية، يتجاوز الوطن المحدد بحدود جغرافية"(8). ومن هذا المنطلق عارض كوهين قيام دوة اسرائيل ويقول متهكما: هل العالم بحاجة الى البانيا جديدة في الشرق الأوسط...!!! او بكلماته وهو ينتقد دعاة الصهيونية: "تريد الصهيونية إقامة ألبانيا جديدة في الشرق الأوسط". ونظرة هريمان كوهين لليهودية نظرة متعالية، مثالية لا ينبغي لها ان تتحيز بأبعاد جغرافية ثابتة. وسوف نرى ان هذه النظرة وهذا الفهم لدور اليهودية تتقاطع وتلتقي مع التمرين العقلي الذي يضعه برفسور يحازقيل درور. فاليهودية في نظر كوهين هي "نور الأمم" والنور لا ينبغي له ان يزوى في حيز محدد.
2- يحازقيل درور وموضوع الدولة والثورة وتمرينه العقلي:
يحاول مفكروا الصهيونية حل الاشكال بين طبيعة الدولة والثورة .. الدولة بصفتها المؤسسة الصهيونية المتحيزة في منطقة محدودة جغرافيا، والتي من الصعب ان تنجز مهام الثورة .. الثورة التي تتحيّز بأجهزة الدولة ومؤسساتها فإنها تفقد روح هويتها .. فكيف يمكن ان تصبح الدولة عود ثقاب يشعل ثورة "روحية" كونية؟ وإذا كانت الصهيونية الجديدة تـُغلّب دور الثورة على الدولة، فإن الصهيونية لا تقبل بغير الدولة وأجهزتها بصفتها أداة ووسيلة من اجل تحقيق الأهداف الصهيونية. وهكذا تريد الصهيونية المحافظة ان تظل الدولة وسيلة ليس من اجل تحقيق مصالح الدولة الاسرائيلية والاهتمام بقضايا مواطنيها كمهام اساسية ورئيسية من واجبات الدولة. وإنما يُراد لها ان تكون وسيلة واداة لتحقيق الأطماع والمصالح الصهيونية الاستعمارية. وتصبح المحصلة أن الدولة الاسرائيلية لا تخدم مصالح مواطنيها بقدر ما تخدم المصالح الصهيونية .. هذه الازدواجية في وظيفة الدولة الاسرائيلية لا بدّ ان يكون لها نهاية .. عندما يبدأ المواطن في الدولة اليهودية يفرق بين مصالحه الشخصية والاجتماعية والسياسية وبين مصالح المجموعات اليهودية التي تعيش خارج حدود الدولة .. عندها ستخوض الدولة صراعا مريرا في سبيل تحديد هويتها ووظيفتها. وعندما ينادي قادة الأقلية العربية ومعها تيار ما بعد الصهيونية وكذلك المؤرخين الجدد من اجل تحرير إرادة الدولة وقرارها من التأثير الصهيوني، فلأن مع الدولة الاسرائيلية، التي من مهامها ووظائفها رعابة مواطنيها بالدرجة الاولى، يمكن التوصل الى سلام وعيش مشترك بينها وبين الفلسطينيين، وبينها وبين العالم العربي .. بينما الأمر هذا ممتنع التحقيق، عندما تكون الدولة آلة لتحقيق الاطماع الصهيونية. لأن الأخيرة كظاهرة استيطانية كولونيالية مرتبطة ارتباطا نباشرا بالظاهرة الاستعمارية العالمية، بكونها جزءا منها ..
وقد تبدو الحيرة والارتباك في التناقض الظاهر في الفكر الصهيوني لمفهوم اليهودية ودورها، بين الروح اليهودية بكونها "نور الأمم" او "الشعب المختار" كما يراها هريمان كوهين .. بحيث لا ينبغي لها ان تتحيز جغرافيا وبين دعاة الحركة الصهيونية الذين يريدون حصر هذا "النور" في حيز ومكان معين ومحدد. وهذا القلق والارتباك يبدو واضحا من خلال "التمرين العقلي" الذي يضربه برفسور يحازقيل درور، في المنطقة التي يطلق عليها التفكير الباطل اللامفكر فيه – ومع هذا يورده لتفكر فيه النخبة المختارة. وهي رؤية الدولة اليهودية كعود ثقاب مهمتها اشعال ثورة روحية كونية. وعلى الرغم من اعلان درور معارضته لفكرة تغليب الثورة على الدولة في تفكير الصهيونيين الجدد، فإن تمرينه العقلي، على الرغم من رمزيته يشي بالتناقض الداخلي والارتباك الجواني .. يقول برفسور درور: هذا التمرين العقلي هو إشارة سرية لتلك النخبة من الاذكياء الموهوبين، الذين لهم الحق فقط في التعامل مع هذا التمرين .. كما ويعتمد على ثقته بمن يقرأ كتبه "مذكرة لرئيس الحكومة" ان لا يخرج بنتيجة ضارة .. وكأن برفسور درور يشترط النتيجة التي ينبغي للقراء ان يستنتجوها من خلال تمرينه العقلي!!!!
يقول التمرين:
"لو أن قادما من كوكب آخر جلس أمام مرآة تعكس تاريخ البشرية، وأخذ يقرأ هذا التاريخ، لاستطاع تمييز تاريخ الشعب اليهودي، وتأمل في حاضر البشرية وتطورها الروحي، من غير اهتمام بحياة الأفراد القصيرة او بهذا الجيل او ذاك، فسوف يصل الى نتيجة مفادها: أن رسالة الشعب اليهودي هي في انتاج نظريات وأفكار روحانية مهمة للجنس البشري مرة بعد مرة، على حساب التضحية باستقلاله السياسي (هذا ينسحب على موقف هريمان كوهين). وهكذا من وجهة نظر المفكر القادم من كوكب آخر فإنه يعطي ترخيصا لإنهيار الدولة اليهودية من اجل احداث زلزال فكري وروحي بين البشر. تمامًا كالثورة التي قدمها الشعب اليهودي بعد خراب الهيكل الاول والثاني. ولهذا فإن القادم من كوكب آخر لا يتردد في تخريب الدولة اليهودية من اجل احداث ثورة روحية جديدة في العالم ويُفضل ذلك على بقاء واستمرار دولة يهودية عادية كدولة الأجانب الاغيار (جوييم) هذه الدولة التي ينقصها بعد روحاني عالمي. ولهذا في نظرته من خارج الكرة الارضية، كان القادم من كوكب آخر يرى في قيام دولة اسرائيل مرحلة تستخدم فيه الدولة كعود ثقاب مهمته ان يشتعل ويحرق نفسه من اجل انتاج ثورة روحية جديدة في العالم".(9)
وخلاصة هذا "التمرين العقلي":
1- أننا لسنا ملزمين بقبول الاستنتاج المشروط كما يريده بروفسور درور.
2- القادم الجديد من كوكب آخر ما هو إلا تلك الطائفة من اليهود والتي لا ترى أن مهمة اليهودية أن تخاطر وتتحيز بحيّز محدد، وهي نظرة تعالٍ، فإن "المقدس" و"النور" لا يتحيّز. انظر موقف هريمان كوهين والجدل اليهودي الداخلي.
3- تأكيد الذات اليهودية المتعالية والمتمايزة والمجانبة لطبيعة البشر الآخرين.
4- التأكيد على ان الدور "الروحي" الفكري لليهودية ليس في رسالتها الدينية وانما برسالتها
العلمانية اللادينية. استمرارا لدور اليهود بعد خرب الهيكل الاول والثاني .. وكأن التمرين العقلي يريد ان يقول ان الدولة اليهودية والكيان اليهودي في زمن الهيكل الأول والثاني والذي كان متحيزا جغرايا وقائما على مبادئ التوراة لم يكن هو المطلوب. بل ان خراب الهيكل والتجول في العالم كحيز عام هو المطلوب .. وهذا شبيه بما يذهب اليه هريمان كوهين.
5- إشعال عود الثقاب (الدولة او الثورة) من اجل احداث ثورة روحية كونية هي امر يهودي داخلي، بمعنى ان دمار الهيكل الثالث عندما يتم سيكون بحركة داخلية يهودية.

3- يهوشواع وتهافت نظرية "النور بين الأمم":
يرى يهوشواع ان الخاصية الكونية لليهودية مشروطة بتخلي الانسان عن هويته الدينية والقومية معا. لذلك هي كونية متحيزة تعاني من خلل. ولتعويض تحيّزها ونواقصها، وضع الشعب اليهودي على عاتقه غاية ومهمة تجاه العالم بأسره العالم المفروض بدرجة معينة. والتعويض المقدم نوع من العرفان مقابل القداسة الحصرية، التي يطلبها الشعب اليهودي لنفسه اي "سأكون ضوءا بين الشعوب، لأنني لا أملك القدرة ولا الإرادة على قبول الجميع. وقد تنازلت الصهيونية عن هذا الدور، وهذه المهمة "الشعب النموذجي" و"المختار" مقابل الحصول على طمأنينة الاستقرار، كبقية الشعوب في أرض تخصنا، والتحول الى اسياد لمصيرنا، نطلب السيطرة على مصيرنا، على أفعالنا، ونحن بهذا المعنى يقول يهوشواع: "كأي شعب يعيش في بلده، بمقتضى سياسته الخاصة ولا نطلب الاختلاف عن الآخرين".
يرى يهوشواع كغيره من الصهيونيين بناة الدولة اليهودية تهافت فكرة "الوظيفة المقدسة" لليهودية التي يدافع عنها الفيلسوف اليهودي الالماني هريمان كوهين، ويطلق عليها يهوشواع "البلاغة الخطابية" وقد اكتشف هذا الأخير كغيره من بناة الحركة الصهيونية ان "الاخلاقية العالية" و"نور الامم" والتي كانت مصدر فخرنا في "المنفى" كانت الى حد ما بلاغة خطابية، تسكن بطون الكتب والموسوعات بنصوصها الجميلة .. ولم تتعداها الى الافعال والواقع، فلم نكن قد اكتشفنا آنذاك اقتصاد الاكتفاء الذاتي الاخلاقي الخاص بنا، لم يكن ثمة جيش خاص بنا ... لم نسيطر على اقليات. ولهذا فقد جعلتنا التخلي عن "البلاغة الخطابية القديمة" نرى صورتنا عن انفسنا في واقع الحياة بأكثر دقة. ولهذا فإن التخلي عن دورنا ومهمتنا ووعيننا بمهمتنا "الاخلاق العالية" خاصة عندما يكون التخلي لصالح الانزلاق نحو غفران ضيق الأفق للذات القومية .. فقد تعلمنا من تجاربنا الشخصية والجماعية ان الذي يعطي الآخر، يصبح أكثر قوة في عطائه .. كالولايات المتحدة التي لا تشكل أكثر من 5% من سكان العالم ولكنها الدولة القوية لأنها تعطي وتمنح الغير"...(10)
وللتغلب على هذا الحرج يرى يهوشواع: "ان تبادر الدولة اليهودية الى تشكيل "فيالق التربية والتعليم" على غرار فيالق "السلام" التي سبق ان شكلها الرئيس الامريكي جون كندي في مطلع الستينات من القرن الماضي. يتمّ ارسالها الى دول العالم الثالث المختلفة والمتخلفة فتعلمها كل شيء: اللغات، الكيمياء، الرياضيات، الكمبيوتر، الطب، الاقتصاد والموسيقى، ولن تكون هذه مهمة دولة اسرائيل فقط، بل سينضم اليها يهود العالم. ويصبح هناك نوع من التنافس على تقديم الخدمات بين اسرائيل كدولة وبين يهود العالم .. وهذا سوف يعيد الثقة التي اهتزت بين بعض اليهود الذين اعتزلوا اسرائيل في السنوات الاخيرة عندما شعروا فيها بالضيق والحرج الاخلاقي من ممارسة اسرائيل للانانية القومية المنافقة. وسوف يثق هؤلاء الضعفاء والفقراء من الشعوب الفقيرة بمثل هذه المعونات "لفيالق التعليم" والتي لا تخفي وراءها "أطماعا اقتصادية وسياسية وعسكرية".(11)
وهكذا فإن المرآة التي ينظر من خلالها اليهود الى صورتهم وصورة الحيّز الذي يتحركون من خلاله (صورة الولايات المتحدة) وعلاقتهما بدول العالم، وكذلك المنطق الذي يفكر به اليهود تجعلهم يرون ويسجلون ما يعطونه للغير فقط..! إن كان هناك ما يعطوه. ولا يرون الاضعاف المضاعفة التي يسرقونها من هؤلاء الأغيار. لا تظهر المرآة التي ينظرون من خلالها صورة تلك الامبراطورية المالية والسياسية والعلمية التي يمتلكها اليهود. تلك الامبراطورية الغير معلنة، والتي تتحكم باقتصاد هذا العالم. لا يرون الذراع الامريكية التي تطول كل نواحي الارض سلبا ونهبا .. وكذلك لا يرى يهوشواع، ولا أقرانه من الصهيونيين ان الامر المتواضع الذي يطلبونه – ان يعيشوا في ارض خاصة بهم كغيرهم من الشعوب – غير متوفرة بغير عدوان على شعب آخر، واقتلاعه من ارضه. فهو يقيم أمنه واستقراره على حساب أمن واستقرار الآخرين .. يقيم دولته على ارض قد شرد شعبها كيف تستقيم هذه الاعمال والممارسات مع رسالة "الضوء بين الأمم" و"الشمعة التي تحترق لتضيء على الآخرين"..! وقد مضى ما يقارب العشرة سنوات ولم تتشكل بعد "فيالق التعليم" التي يقترحها يهوشواع .. بل نحن اليوم بصدد فيالق من طائرات ب 52 وفيالق من صواريخ كروز وتوماهوك تدمر هؤلاء الضعفاء والمحرومين.
4- ظاهرة انتحال شخصية الآخر:
وهي تلبس اليهود على الآخرين ومحاولة انتحال ثقافتهم وسرقة هويتهم، ومن ثم صياغة هذه الثقافة من خلال المفاهيم التي تخدم المصلحة اليهودية .. وسوف نسوق للتدليل على هذه الظاهرة بعض الشواهد والقرائن:
1:4 الظاهر "السبئية" نسبة الى عبد الله بن سبأ اليهودي (ابن السوداء) وقد اعتنق ظاهريا الاسلام وأبطن الكيد له وقد كان من اتباع المزدكية. فقد استطاع ان يدخل تحريفا في عقيدة المسلمين بما عرف بالبعد الشخصاني مكان الفكرة والعقيدة. ونادى ان علي بن ابي طالب أحق بالخلافة من ابي بكر وعمر وعثمان وان المسلمين غصبوه حقه .. وقال في علي امورنا أنكرها عليه علي كرم الله وجهه وهدده ان عاد اليها ليذيقنه عذابا شديدا. وما زال يطوف ببلاد المسلمين يؤلب الناس على الحكومة المركزية المتمثلة بالخلافة حتى تمّ جمع الجموع من الأمصار وتمّ قتل الخليفة عثمان رضي الله عنه وبقي هذا الصراع والتشققات تنخر في جسم الأمة وتنتج تلك المجموعات الرافضة والغاضبة على مدى التاريخ الاسلامي، وليست العلاقات السلبية بين ما يسمى الشيعة والسنة الا نتائج مباشرة للظاهر "السبأية". وقد تم اكتشاف "السبئية" في تلك الفترة لقرب عهدهم بالاسلام وطهارة سرائرهم وصفاء عقيدتهم وشفافيتها .. أما بعد ذلك فقد تكررت هذه الظاهرة ولم تستطع الأمة اكتشافها خاصة وقد اختلط البشري بالإلهي والانساني بالمقدس في جيل ما بعد التابعين ممثلة بفقه ما عرف بـ"الاسرائيليات" وهذا الموضوع لم يجرؤ أحد على تناوله بأبعاده الحقيقية ومدى خطورتها لأنه يمس تلك المشاعر الزائفة والعواطف الكاذبة التي تشكلت في وجدان الامة وأصبحت من القوة بحيث باتت تحرق من يقترب منها او يفكر بتعريتها. واستطاع هذا الفكر وهذا الفقه من تشكيل وصياغة رادع ذاتي يخيف ويرهب كل محاولة يمكن ان تتعرض له بسؤال .. وخلقت ما عرف بسلطة النص وراحت تقدسها حتى لا يتمكن المرء من الاقتراب منها او مجرد التفكير بها. وهي مناطق لا مفكر بها يحيط بها البشري المقدس الذي يملك سلطة التكفير.
2:4 ظاهرة المستعربين وهي قديمة وحديثة. وقد كتبنا عن منهجية هذه الظاهرة بما فيه الكفاية في موضع آخر من هذه الدراسة.
3:4 ظاهرة تلبس اليهودية على الشخصية الاوروبية منذ القدم وخير مثال لذلك ما جاء في كتاب "دور اليهود في النهضة الايطالية (الرنيسانس)(12)، وسوف أضع باختصار شديد المنهجية التي اخترق اليهود بواسطتها المؤسسات والمجتمع الايطالي كما ورد في هذا الكتاب .. وبإمكان القارئ العربي ان يتعرف على الموضوع بتوسع في كتابنا "المبني والمعرب في دنيا السياسة".
جاء في مقدمة الكتاب: "لم تبدأ المساهمة اليهودية في احياء العلوم في الفترة التي أعقبت سقوط كوشطا في عام 1453 والتي تعرف بالنهضة "اليونانية" وانما قبل ذلك كان التجديد الروماني يقوم على نصوص رومية، وبعد ذلك على نصوص عربية .. مع بداية العصور الوسطى كان اليهودي يتحلى بدرجة متفوقة ثقافيا على الاوروبي. وقد كان ابن المكان في ايطاليا فيما يتعلق بالعلوم والفلسفة اليونانية القديمة بصيغتها العربية .. وقد كان اليهودي في النهضة الرومانية يعتبر طلائعي في العالم المسيحي .. وقد احترموا طلائعيته، واعتبروه وصيا على ثقافة عالية جدا، وفي الحقيقة علينا ان نرجع جذور النهضة الايطالية الىما قبل القرن الثاني عشر للميلاد. وقياسا على ذلك فإن تأثير اليهود ودورهم في الحياة الالمانية خاصة والاوروبية عامة كان أكبر في القرن التاسع عشر .. كما هو الحال في تأثير اليهود في الولايات المتحدة في ايامنا هذه اكثر منه في فترة النهضة الايطالية التي نتحدث عنها كترجمة مؤلفات ابن رشد والكتب الطبية والفلكية".(13)
يمتاز تاريخ اليهود في ايطاليا بصفات معينة والتي تميزها عن تاريخ اليهود في اي من البلاد الاوروبية الاخرى .. فقد كان الوجود اليهودي في ايطاليا قديما وظل متواصلا من غير انقطاع .. يرجع تاريخ اليهود في ايطاليا الى ايام المكابيين وقبل تخريب القدس وهدم الهيكل الثاني على ايدي الرومانيين بما لا يقل عن مئتي سنة. ومن ذلك الوقت يرد ذكرهم باستمرار من غير انقطاع .. ولهذا لم يكن اليهود في فترة الرنيسانس غرباء عن ايطاليا، بل سكان دائمين كغيرهم من سكان ايطاليا .. وكانت حياتهم الثقافية جزءا من ثقافة محيطهم الطبيعي لمدة تزيد عن خمسة عشر قرنا .. وقد ساهم اليهود بقسط وافر من النشاط الاقتصادي في حياة المدن التجارية في ايطاليا، والتي أثرت تأثيرا عميقا على اوروبا القرون الوسطى .. وحتى الحروب الصليبية كان لليهود دور مهم، بل في رأي بعض المفكرين كان لهم وظيفة مهمة وحاسمة في مراحل معينة(14).. وكذلك كان لليهود دور في غابة الأهمية في اقامة المصارف في ايطاليا .. بل يكاد يكون هذا النشاط مقصورا على اليهود.(15)
وبعد طرد العرب المسلمين واليهود من الاندلس عام 1492 فقد جاءت موجة من المهاجرين الى ايطاليا وغيرها من الدول الاوروبية. وفي القرن السادس عشر كانت موجات الهجرة لأبناء المارانوس تتم بشكل متواصل (وهم اليهود الذين اجبروا على اعتناق المسيحية وما زالوا في حقيقة امرهم يهودا) ومن بين هؤلاء من كان على درجة عالية من الثقافة، وكان النشاط اليهودي في ايطاليا كنموذج لما كان يحصل في غيرها من الدول الاوروبية، يمارس بمنهجية. فقد عاش اليهود في ايطاليا حياة مزدوجة، حياة بنك الاقتراض من جهةن وحياة المعابد اليهودية من جهة اخرى .. عن حياة اليهود في البنوك كايطاليين نقرأ ونتعرف عليهم من المستندات البنكية الرسمية. وعنهم كيهود نقرأ في المستندات اليهودية. في الوثائق العبرية نتعرف على اليهود من اسمائهم المأخوذة من التوراة .. وفي المستندات الايطالية الرسمية يذكرون بأسماءهم الايطالية. وليس من السهل الجمع والتنسيق بين هذه الاسماء. وسوف نذكر بعض الطرق المتبعة في اختيار الأسماء:(16)
1- تعديل بعض الحروف في الاسم العبري وصياغته حتى يتلائم مع مألوف الأذن الايطالية مثال على ذلك:
- الاسم العبري أبراهام يظهر في الصيغة الايطالية: أبرامو.
- الاسم العبري يعقوب التناخي (التوراتي) هو "جاكوبا" الايطالي.
2- وقد تكون طريقة الاسماء والالقاب معقدة وبعيدة كالتي تستند الى النغم الموسيقي او الأمثال في بركات يعقوب او بركة موسى: مثال ذلك:
- فالاسم العبري يهودا يصاغ ب "ليئو" أو "ليئونا" كما كان يكني النبي يعقوب عليه السلام ابنه يهودا (غور ارييه بمعنى أسد).
- الاسم العبري مردخاي صيغته الايطالية "ماركو" او "انجيلو".
3- وقد كان الاسم يترجم كما هو الحال في الاسم العبري يتسحاك (من الفعل ضحك) فكان يقابله الاسم الايطالي "جابو" وهم ن مفهوم الضحك. وكذلك الاسم العبري "مناحم" عرف بالاسم الالماني ماندل وكإسم ايطالي صيغ "مانوئيلا" وفي أحيان قليلة تشابه مع عمانوئيل. والاسم العبري "بنيامين" أبدل دائما باسم جولييلمو لأن في إرث النبي يعقوب لقب بنيامين بالذئب .. وفي اللغة الالمانية يقترب الاسم وولف من الاسم ويلهيلم .. وكذلك الاسم حزقيا والذي ترجم منذ القرن السابع عشر الى اسم "تشيجارا" وهكذا(17) فإن هذه الأسماء وأسماء أخرى لا سبيل الى ذكرها الآن قد تم في الجيل الاخير من سنوات العقد الرابع من القرن العشرين تحقيق هذه الاسماء وكشف سجل بها.
إذا كنت قد سألت في دراسة اخرى: عن دور اليهود في إثارة الحروب الصلبية. فقد تجاوزنا الآن ذلك بعد ما جاء في الكتاب آنف الذكر بصريح العبارة عن الدور الرئيسي لليهود في الحروب الصليبية والاعداد لها.
ومن جهة أخرى راينا دور اليهود في اعداد وتربية جنكيز خان كما جاء في كتاب: "الاسلام والعوالم المندمجة فيه" وكما ذكر ذلك المؤرخ المملوكي الشهير شهاب الدين احمد بن عبد الوهاب النويري المتوفي عام 1333 للميلاد الموافق 733 هـ في موسوعته الشهيرة: "نهاية الأرب في فنون الأدب" وقد اثارت هذه الموسوعة مؤخرا اهتماما واسعا من الباخثين. خاصة الدراسة التي صدرت عن جامعة كمبردج في عام 1998 .. ولا يهمنا ان كان هناك دور في اثارة الحروب القديمة .. ولكن في العصر الوسيط والحديث فان هذا الدور بارز وواضح .. فالحروب الصليبية كانت كما يبدو حرب اليهودية على الاسلام بسيوف صليبية .. وكذلك الغزو التتري كان حرب اليهودية بسيوف مغولية .. والحرب الأهلية الروسية بعد ثورة اكتوبر 1917 ... وحروب الولايات المتحدة على العالم العربي والاسلامي أليست هي حروب اسرائيل يحاربها عنها الأغيار ...


الهوامش:
1. طه عبد الرحمن ومشروعه الفلسفي انظر كتبه: (1) فقه الفلسفة (2) تجديد المنهج في تقويم التراث (3) العمل الديني وتجديد العقل (4) سؤال الاخلاق (5) في اصول الحوار وتجديد علم الكلام (6) الميزان واللسان والتكوثر العقلي.
وكذلك محاولات الفيلسوف ابو يعرب المرزوقي: (1) آفاق النهضة العربية (2) اصلاح العقل في الفلسفة العربية (3) وحدة الفكرين الديني والفلسفي.
2. أطلس العالم – اوران نهري ط1 2003 مبّا، ص114.
3. انظر في هذا الموضوع:
- طه عبد الرحمن: الحق العربي في الاختلاف الفلسفي – المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء 2002، أنظر الفصل: الفلسفة بين "الكونية" و"القومية".
- جورج طرابيشي في كتابه: "من النهضة الى الردة" – دار الساقي 2000 بيروت، فصل العولمة ص161 وما بعدها.
- فصلية "البرهان" العدد الاول صيف 2002 "جدلية الفكر اليهودي: تجول المعاني في نطاق الحيّز المتغير" محمد سعيد ريان – مؤسسة القلم الاكاديمية - الناصرة
4. جورج طرابيشي: من النهضة الى الردة – العولمة ص161.
5. نظرية مارتن بوبر التربوية: د. أدير كوهين، يحداف للنشر تل ابيب 1976، ص244.
6. فصلية البرهان: جدلية الفكر اليهودي: تجول المعاني في نطاق الحيّز المتغير"، العدد الأول 2002 الناصرة، للكاتب نفسه.
7. نظرية بوبر التربوية، ص248.
8. المصدر السابق، ص249.
9. انظر كتابنا "الميني والمعرب في دنيا السياسة"، فصل "الدولة الاسرائيلية من منظور يهودي" ص143-188.
* ودرور هو بروفسور متقاعد في العلوم السياسية في الجامعة العبرية بالقدس وما زال نشيطا كأميريطوس للعلوم السياسية. وقد أشغل منصب مستشار رئيس الحكومة للامن القومي فترات طويلة، وهومن التيار الصهيوني المتشدد خاصة في كتابه الذي صدر مؤخرا حول "تجديد الصهيونية".
10. من محاضرة القاها في جامعة شيكاغو بالولايات المتحدة عام 1995 نشرتها فصلية "الكرمل" الثقافية في عددها 54 شتاء عام 1998 – تصدر عن مؤسسة الكرمل الثقافية – رام الله – فلسطين.
11. المصدر السابق، ص278.
12. دور اليهود في النهضة الايطالية (هيهوديم بتربوت هرينسانس بايطاليا) – بتصلإيل روت – مؤسسة بيالك القدس – 1962.
13. المصدر السابق، 7، 8.
14. المصدر السابق، ص14.
15. المصدر السابق، ص16.
16. المصدر السابق، ص26، 27.
17. المصدر السابق، ص26، 27.





















الفصل السابع – الخلاصة:
أسيا هي الحيز القادم لاستيعاب المعنى المتجول:
استعلاء العنصر اليهودي:
يرى البعض أن الشعب اليهودي صاحب خصائص وميزات خاصة قد لا توجد عند غيره من الشعوب. وهذا ما يثير فضول الكثيرين من الباحثين من اليهود ومن غير اليهود ليكتبوا في هذا الباب. ويكاد يجمع المفكرون اليهود على أن اليهود عنصر خاص مميز عن غيره من بني البشر، ولهذا فهو "الشعب المختار" "شعب الفضيلة" "النور بين الأمم".
يقول باول ايديلبيرغ(1): "الشعب اليهودي، شعب يختلف عن كل شعوب العالم، فهو شعب قبل ان يكون له وطن، بينما غيره من الشعوب ينتمون الى رقعة جغرافية محددة، فلولا بلاد اسمها فرنسا، لم يكن هناك فرنسيون، ولولا البلاد الالمانية لما كان هناك شعب الماني وهكذا. وهذا يعني ان امتلاك ارضا محددة ليس شرطا لازما وضروريا لوجود شعب اسرائيل كشعب .. لأن ارض اسرائيل ليست هي التي جعلت من بتي اسرائيل شعبا .. ولكن "وطنهم المتجول" التوراة هي التي حافظت على بقاء اليهود كشعب وهو يقضي في غربة قد طالت ما يزيد عن 19 قرنا كان فيها اليهود من غير وطن، وكانوا شعبا .. ولهذا فإن هؤلاء من بين اليهود – الذين يرون ان ارض اسرائيل هي مصدر القومية اليهودية انما هو تفليد رخيص وسهل من قبل هؤلاء الساسة الصهيونيين، لتلك القوميات "الجغرافية" في العالم الغير يهودي".
وردا على بعض التهم التي يلحقها غير اليهود باليهود، من أنهم لو كانوا حقيقة مميزين، لما كانوا ملاحقين في العالم ومضطهدين.
يفسر ذلك يهودا هليفي*: "أن الضيق والمصائب التي يمر بها اليهود على مدى مئات السنين، بينما كثير من الشعوب غيرهم ترفل بالسعادة والسرور والأمن، يرجع الى شعور اليهود _____________
* ليس من السهل تصنيف يهودا هليفي لأية مدرسة فلسفية مع ان هناك بعض الخطوط في فكره تلتقي مع الافلاطونية الحديثة. ولد عام 1085 بطوليدا وقد عاش في جنوب اسبانيا وعمل كطبيب في مسقط رأسه ثم انتقل الى قرطبة. وفي عام 1140 عزم الهجرة الى فلسطين. بقي بعض الوقت في ضيافة مريديه في مصر وقد توفي بعد وقت قليل من عام 1141. وباستثناء شلومو بن جبيرول فقد كان يهودا هليفي أشهر شاعر في العصور الوسطى، حيث ان شهرته كانت في شعره الديني. وقد ذهب في أثر حجة الاسلام ابو حامد الغزالي في نقده لفلسفة ارسطو. ومن اشهر كتبه كتابه الكوزري والذي صاغه على شكل حوار مع ملك الخزر الذي يقال انه استمع الى عالم مسلم وآخر مسيحي ثم استمع الى يهودي فاقتنع بالديانة اليهودية وتهود. وفي مكان أثري في قرية كابول في الجليل الغربي من شمال فلسطين يعرف عند عامة الناس أنه مكان "بنات الانبياء" وضع علماء الآثار من اليهود حجرا كتب عليه ان في هذا المكان قبور ثلاثة شعراء هم: بن جبيرول وبن عزرا ويهودا هليفي.
بهؤلاء المرضى الخاطئين من باقي الشعوب. هذا الضيق والمعاناة في ظاهرها هي الصحة والعافية وهي برهان على صحة التوراة. وهي ايضا تشير وتدل على جهل الجاهلين من غير اليهود. الأمر الذي يجعل الشأن الإلهي (بني اسرائيل) ملتصق بهذا العالم، وكما ان عناصر الوجود (الماء والهواء والتراب والنار) التي جعلت منها الموجودات. وقد نتج عنها النباتات، وبعدها الحياة ثم الانسان ثم يرتقي في هذا التدريج حتى يصل الى "قيم الانسان" وفضائله. كل ما تقدم جاء ليخدم قيمة الفضيلة، التي هي محط الأمر الإلهي .. وتلك الفضائل ما جاءت إلا من أجل فضيلة الفضائل، المتمثلة في حال الانبياء والصديقين من اليهود".(2)
وبما أن محط الأمر الإلهي هم اليهود، فهم بهذا يمثلون قيم الفضيلة وبالتالي فضيلة الفضائل الذين هم الأنبياء والصديقون من اليهود .. وكذلك فإن من أجل طهارة العنصر اليهودي ونقاء نفوسهم الزكية، فإن رحمة الله تنزل على البشر.(3) وبتعبير آخر فإن البشرية عندما تنعم بالهناء والسرور والأمن والسعادة من عند الله تعالى، فهذا إنما يتمّ إكراما لوجود العنصر اليهودي على الارض. ولهذا نرى يهودا هليفي يضع سلم تدريج لأفضلية الموجودات فهو يرى ان الموجودات تبدأ بعناصرها الاساسية وهي المادة الصماء المركبة من العناصر الاربعة (حسب الفلسفة اليونانية) وهي أول درجات السلم ثم يأتي (2) النبات (3) الحيوان (4) الحيوان الناطق (5) اسرائيل نخبة الجنس البشري. وغاية خلق "شعب الفضيلة" هو من اجل "فضيلة الفضائل" الذيم هم الانبياء والصديقون من اليهود".(4)
وبمقتضى هذا التدريج فإن البشر هم أرقى الحيوانات، حيث يتميزون بالنطق عن غيرهم من الحيوانات .. بينما يصنف بني اسرائيل بخانة فوق بشرية وهم شرف هذا الوجود وغايته في نظر مفكريهم.

اليهود وروح العصر:
من يريد ان يتماشى مع روح العصر لا بد أن يفهم الروح الثقافية والفكرية السائدة في ذلك العصر وأن يعيش حسب قوانينها. حتى يستطيع ان يؤثر فيها. يؤثر في صياغتها الفكرية ويكون عضوا منتجا فيها. وبهذا يستطيع ان يؤثر فيها لتحقيق مصالحه وأهدافه وغاياته .. مثل ذلك كمثل المرء الذي لا يفهم ظروفه الموضوعية التي تحيط به وتأثيرها فيه، فكيف له ان يستغلها في تحقيق شؤونه الخاصة. واليهودية العالمية استطاعت من خلال تاريخها الطويل، والذي يقارب ثلاثة الاف وخمسمائة سنة ان تلائم نفسها مع الظروف العامة ومع روح العصر. بل ان اليهودية لم تكن من خلال تاريخها الطويل قوة حيادية لا تأثير لها في واقع الحياة، بل كانت اسهاماتها ومشاركتها في انتاج الفكر الفلسفي والثقافي للبشرية ملموسا أضعاف أضعاف نسبتها العددية بين الناس، مما جعلها تستطيع ان تقدم حاجاتها ومصالحها بروح العصر الذي نعيش فيه فتحقق انجازات كبيرة ..
ففي العصور الوسطى عندما كانت فلسفة ارسطو هي السائدة في العالم جاء من يفسر روح الدين اليهودي وملائمتها مع روح فلسفة ارسطو، كما حاول ذلك موسى بن ميمون في كتابه "دليل الحائرين" ان يفسر التوراة بحيث تواكب وتلائم مبادئ فلسفة ارسطو.(5)
ثم في عصر العقلانية نرى الفيلسوف اليهودي الألماني هريمان كوهين يحاول في كتابه Religion of Reason ان يلائم اليهودية للفلسفة الكانطية(6)، ويجعل منها فلسفة عقلية.

عندما تصبح اليهودية هي روح العصر:
لكن ما يلفت النظر ان المفكرين اليهود المعاصرين، يرون ان الوقت الذي كان على اليهود ان يلائموا التوراة لروح العصر قد مضى. وان اليهودية اليوم ينبغي لها ان تظهر كما هي بل ينبغي ان يلائم روح العصر لمبادئ التوراة .. وهذا هو الأمر العظيم ان تصبح الفلسفة اليهودية مستقلة وهناك فالنهضة الذاتية، التي تصبح فيها التوراة والفلسفة اليهودية هي المعيار للآخرين. ونرى ان المفكرين اليهود المعاصرين قد يمتنعون عن تقديم صدقة من هذا القبيل، "الالتزام بملائمة اليهودية لروح العصر السائدة". وهم يرون ان هذا الحال قد مضى زمانه. وبهذا هم يتمسكون بوجهات نظر تعكس استقلالية التوراة في نشر نورها على الوجود. وقاموا بتعرية وكشف السلبيات لقسم كبير من الفكر العلماني. وهم يحاولون تغيير خارطة المعرفة. هذه النهضة الاستقلالية للفلسفة اليهودية هي شرط مسبق لوجود سياسة يهودية.(7)
ليست الفلسفة اليهودية اليوم كما كانت في الماضي مضطرة لتخفض هامتها امام الديمقراطية مثلا لتلائم نفسها لمبادئ الديمقراطية، بل إن الديمقراطية عليها ان تصمد للنقد اليهودي. اصبح هناك ديمقراطية كلاسيكية عرفية اخلاقية وهناك ديمقراطية اباحية غير عادية. أصبحت اللبرالية والتعددية وسيادة الدولة موضع نقد من الفلسفة اليهودية. يبدو ان هذه المفاهيم قد ساهمت وشاركت اليهودية في صياغتها إن لم تكن قد انتجتها وقذفت بها الى السوق لفترة زمنية محددة.
اليوم وبعد مرور ما يزيد عن خمس وخمسين سنة فطن بعض المفكرين اليهود للنواقص الخطيرة جدا في وثيقة اعلان استقلال اسرائيل. هذه النواقص اذا كانت غير معروفة لقطاع الاكاديميين فكيف حال الجمهور الواسع؟ وهذه الأخطاء لا يمكن اصلاحها لأنها تمس جذور الصهيونية العلمانية السياسيةوالتي استلمت ورقة دفنها في العشرين من آب 1993 حين التوقيع على اتفاقية اوسلو .. (لا ينبغي ان ننسى انه في فترة حكم رابين قد مُحيت الكلمات التالية "الصهيونية" "ارض اسرائيل" وحتى "اليهودية" من الامر الاخلاقي لجنود جيش الدفاع الاسرائيلي).(8) ويرى نقاد وثيقة اعلان الدولة، هذه الأيام ان الأخطاء التي تضمنتها هذه الوثيقة تحوي في احشائها علة انهيارها .. من هذه الأخطاء والتي يمكن اصلاحها وهي الاعلان عن دولة يهودية ديمقراطية ..
يرى باول ايديلبيرج في موت الصهيونية ليس أكثر من موت أية حركة سياسية والذي كان هدفها الاساسي اقامة دولة ديمقراطية علمانية في ارض اسرائيل. وهذا الهدف قد تحقق عام 1948. ولكن اليوم في عصر ما بعد الصهيونية تتخبط اسرائيل والسؤال هل بإمكانها ان تنجو كدولة ديمقراطية علمانية؟ هذا لم يعد موضوع شك في انها لا تستطيع الصمود.
ويرى ايدلبرغ ان القول ان ارض اسرائيل هي التي أوجدت الشعب اليهودي هذا قول خطأ ومضلل وكاذب(9) .. كذلك فإن كثيرا من المصطلحات يجب تقييمها ومراجعتها بحيث لا تتعارض مع مفهوم اليهودية التقليدي مثل "دولة" "دين" "سياسة" "ديمقراطية" "حرية" "مساواة" "مواطنة" لولا هذا ما كان لنا ان نبحث في بعث ونشر "سياسة يهودية" هذه السياسة الغير موجودة في اسرائيل، ويمثل ايدلبرغ رؤساء الحكومة في اسرائيل مثلهم كمثل بنيامين دزرائيلي وبيير منزس-فرانس فقد كانوا أيضا رؤساء حكومات يهود في ربيطانيا وفرنسا ولم يتوقع احد منهم ان يحكموا تلك الشعوب بمقتضى سياسة يهودية، وهؤلاء تصرفوا ليس كيهود وانما كغرباء لأن الشعوب التي حكموها ليسوا يهودا والأمر كذلك مع رؤساء حكومات اسرائيل فإنهم لا يحكمون "بسياسة يهودية".(10)
وأخطر ما ينادي به أيدلبرغ هو قضية "المواطنة" في الدولة اليهودية. وهو يرى ان فكرةالمواطنة غريبة عن روح اليهودية، وينبغي ان يشكل نظام حكم لا يستند فقط على فكرة المواطنة(11 حتى لا تصبح الدولة اليهودية "دولة كل مواطنيها" كما يريدها تيار ما بعد الصهيونية. وإذا كان اسحاق رابين قد حذّر منذ السادس في ايار 1976 عندما قال: "يجب ان يبقى الشعب اليهودي اغلبية في هذه الدولة ولا ينبغي ان نقبل بأغلبية غير كافية، والويل لنا اذا أصبحنا أقلية يهودية. هناك مكان لأقلية غير يهودية شرط ان تعترف برسالة الدولة والتزامها للشعب اليهودي، ولثقافته ومعتقده وعاداته. للأقلية حقوق متساوية بما يخص الدين وثقافتهم المتميزة وليس اكثر من ذلك".(12) وهذا يعني ان للأقلية العربية ليست لها حقوق سياسية ويفهم من هذا امكانية تجريد العرب من مواطنتهم.(13)
يقول ايدلبرغ لقد عادت اسرائيل لتصبح فلسطين منذ عام 1952 عندما اقرت الدولة "قانون المواطنة"، في ذلك اليوم هبط على اسرائيل مُركب اضافي لتلويث المعرفة التي دخلت عقول اليهود. وحتى نقوم بتنظيف هذا التلوث علينا ان نبحث في جذور المواطنة الفلسطينية(14) الانتدابية، والذي جاء قانون المواطنة في اسرائيل عام 1952 على شبه كبير بالقانون الانتدابي. والذي فيه قـَسَمٌ يؤكد الاخلاص للدولة.
لقد بلغ الفكر اليهودي من الجرأة والهيمنة والصراحة والوضوح حدا يمكنُه من اعادة النظر والبحث في امور وقضايا يحسب عامة الناس وخاصتهم، انها اصبحت امورا إما مشهورة وإما من المسلمات في العلوم السياسية .. لو ان كاتبا او كتابا من غير اليهود يكتبون بالوضوح الذي يكتب فيه باول ايدلبيرغ وغيره من كبار المفكرين اليهود، لغدو من يومهم عنصريين، متعصبين ومتطرفين .. ولكن علينا أن نتأكد أن الذي يحصل اليوم هو بداية عصر اليهودية واصبحت "اليهودية هي روح العصر" من أجل ذلك يطالب الفكر اليهودي أن يصبح مقياسا للقضايا الأخرى.!!!
ويبدو ان تلك القضايا والأحكام المتعارف عليها: كالديمقراطية واللبرالية والتعددية والمواطنة وسيادة الدولة وغيرها، إما كانت في أصلها صياغة يهودية تحمل رمزا محددا لمفكرين وفلاسفة من اصحاب الأسماء والألقاب المزدوجة .. الازدواجية تظهر وكأنها صفة خلقية استقرت في الطبع اليهودي حتى أصبحت مرادفة للمعنى اليهودي المتجول إزدواجية في مستوى الفكر والعقيدة وازدواجية كذلك في مستوى الانتماء للوطن والحيز الجغرافي. بين الحيز الذي يعيش فيه ديفاكتو defacto وبين الوطن المتخيل الذي يقوم على وعد (ارض الميعاد) والي تبلورت بعد قيام اسرائيل الى ازدواجية المواطنة .. او ان هذه القضايا والاحكام قد كان لليهودية أثر بالغ ومساهمة كبيرة جدا في صياغتها وانتاجها. من اجل ذلك تملك الجرأة والمبادرة في نقدها والخروج عليها وعلى مفاهيمها المتعارف عليها.
وكل ذلك يبرهن ان هناك محاولة لصياغة روح العصر صياغة يهودية صريحة وجهرية، بحيث يصبح اليهودي مقياسا عاما.
يقول ايدلبيرغ: "علينا ان نلائم الديمقراطية لليهودية وليس العكس كما يريده محاموا الديمقراطية. وبعد ذلك فقط يسمح لعامة الشعب في الحديث عن الديمقراطية بعد توضيحها من جديد على انها تعني "رقابة الله على حكم الشعب" او "حكم الشعب تحت رقابة الله" والتي تلائم التعبير "أمة واحدة تحت رقابة الله" كما هو في القسم الامريكي .. وهذا سوف يؤثر على مفهوم "الدولة" ، فالدولة سوف تتوقف عن كونها شخصية اعتبارية ذات سيادة بل تصبح اداة في خدمة الشعب. وبملائمة الديمقراطية لليهودية نقلل من الاختلافات وعدم التجانس والانسجام بين العلماني والمتدين، الأمر الذي يساعد على قيام الوحدة اليهودية".(15)
ويرى ايدلبيرغ ان وثيقة اعلان الدولة تتضمن شروط القضاء على الدولة، فهي قد أنكرت نزول التوراة في جبل سيناء من عند الله، وزعمت انها انتاج يهودي خاصة عندما تعلن: "في ارض اسرائيل تشكل الشعبي اليهودي، وفيها تكاملت شخصيته الروحانية الدينية والسياسية، وبها عاش حياة ثورة رسمية. وفيها أوجد تراثه الثقافي القومي والانساني، وأورث العالم كله الكتاب الأزلي (التوراة) وتستخدم الوثيقة مصطلح "أوجد" او "أبدع وأنتج" وكأن التوراة لم تتنزل من عند الله .. وعلى الرغم من ان كلمة "دين" لم ترد ولو مرة واحدة في ألْ "ميكرا" فإن ذلك يعتبر انحناء أمام نقد أل"ميكرا الالماني" والقصد هنا الفلسفة النقدية الالمانية .. وهذا ليس غريبا عن روح الحركة الصهيونية ومؤسسيها فقد كانوا لا علمانيين، فهذا بن غوريون يصوغ ذلك بشكل واضح في مذكراته، فيقول: "بما يتعلق بي شخصيا فإني أرى كما هو واضح ان اللاهوت قد عكس نظام الحوادث الصحيحة. في نظري واضح أن الله قد أبدع وأنتج على صورة الانسان كتفسير للانسان نفسه لحياته الغامضة في هذا العالم".(16)

باول ايدلبيرغ وحقوق غير اليهود:
يستغرب ايدلبيرغ كيف منحت وثيقة اعلان الدولة وقانون المواطنة عام 1952 حقوق سياسية متساوية للأقلية العربية.؟ وهو يهاجم الكنيست وأنظمتها التي تسمح للنواب العرب كيف يجلسون على راحتهم ويتقاضون رواتب كبيرة مقابل تحريضهم على الدولة .. لم يستطع اعضاء الكنيست اليهود في هذا البرلمان "المضحك" من عمل شيء يوقف عزمي بشارة من تحريضه على الدولة واليهودية والتماهي مع اعداء اسرائيل غير حملقة العيون وعلامات الاستهجان.(17)
ويهاجم ايدلبيرغ قانون المواطنة، لأنه يسمح لغير اليهود الحصول على المواطنة وحق الاقتراع وليشغلوا وظائف ومناصب في الدولة ويستطيع العرب التأثير على تشريع القوانين في الدولة التي ينبغي لها ان تكون يهودية. وهو يستنتج ان اسرائيل أصبحت لليهود ولغير اليهود، فهي إذن "دولة كل مواطنيها".(18)
ولكي يجعل الحياة أكثر صعوبة على العرب فهو يقترح ان تضع الدولة "قسم المواطنة" والخدمة العسكرية. وكل من يرفض القسم والخدمة العسكرية يخسر حقوق المواطنة ويمنع من حقه في الانتخابات العامة والمحلية، او حتى ان يشغل وظيفة رسمية في دولة اسرائيل .. ويجب تشجيع هذا النوع من العرب على الهجرة وتعويضهم عن ممتلكاتهم بشكل مقبول. ويضع صيغة القسم بشكل فيه "إذلال للعرب" .. وعلى الرغم من علمه ان هذا القسم فارغ من كل مضمون إلا انه يكفي لإذلال وتحقير الكبرياء العربية..!!!(19)
ولكي يضمن بقاء الأقليات الغير يهودية إما خارج البيت اليهودي او خارج القرار السياسي اليهودي فإنه يقترح صيغة جديدة لقانون المواطنة بحيث يتلائم مع تعاليم التوراة .. حيث ان مصطلحات "المواطنة" و"سياسة الدولة" هي مصطلحات غريبة عن روح التوراة".(20)
ومعنى "سياسة يهودية" فإنه يتطلب مؤسسات يهودية، لا يكون فيها لغير اليهودي حق تشريع قوانين يهودية .. ليس هناك شعب واحد في دولة اسرائيل هناك يهود وغير اليهود. ولا ينبغي لغير اليهود ان يكون لهم تاثير في المؤسسات اليهودية.
"نحن بحاجة لوقت طويل حتى ينتهي دور ايديولوجياتنا في حياتنا. الايديولوجيات الدينية والعلمانية سواء بسواء. كما ان هناك بعض الأساطير في حياة الأمة التي يجب ان تصل الى آخر الطريق حتى تفرغ ضررها وتكشف افلاسها".(21)
ويرى ايدلبيرغ: "ان المسار (اليهودي – الكاتب) قد بدأ، وأن الحمل قد حصل ويختفي تحت السطح ينتظر زمن الولادة. وكما جاء في كتاب يشعيهو على لسان الرب: "أأبدأ ولا أنهي؟".(22)


الولايات المتحدة واسرائيل: علاقات متبادلة ام اندماج وتمازج:
هناك ثلاث قيادات استراتيجية بين اوروبا وامريكا وحلفائهما:
1- قوات الانتشار السريع – كانون ثاني 1983 او "القيادة المركزية" (CENTCOM) وهي القوة الامريكية التي تتولى شأن جنوب غرب آسيا ورفع دورها حتى يولزي مرتبتي:
2- القيادة الاوروبية (EUCOM).
3- قيادة المحيط الهادي (PACOM).
وقد ظلت الاراضي الاسرائيلية ضمن مسؤولية "القيادة الاوروبية" كما هو حال سوريا ولبنان، كما أدرجت مصر والسودان والاردن ضمن القيادة المركزية، وظل التعاون بين الولايات المتحدة واسرائيل المتمثل في التعاون الاستراتيجي الامريكي-الاسرائيلي (اي المناورات المشتركة وتخزين الاسلحة).
ويرى دور غولد(23) (باحث من مركز يافا للدراسات الاستراتيجية في جامعة تل ابيب) وقد أجرى مقابلات عام 1986 مع مسؤولين في وزارتي الخارجية والدفاع (البنتاغون) ومجلس الامن القومي الامريكي بأن عدم ضم اسرائيل الى "القيادة المركزية" يبرر بصعوبة اشراك اسرائيل في التعاون الاستراتيجي الامريكي-العربي والذي هو غاية في الصعوبة. كما ان اسرائيل لم تزل منذ زمن على علاقة ب"القيادة الاوروبية" بحيث ان هذه القيادة كانت مسؤولة عن مهمات تموين وامداد اسرائيل سنة 1973 وستظل كذلك في اي حرب مستقبلية. فإسرائيل بلد متوسطية والاستراتيجيون يحددون مسارح العمليات وفق معيار المنفذ البحري. واسرائيل تنتمي الى القيادة الاوروبية .. غير ان ذلك لم يرض القيادة الاسرائيلية، حيث ان الولايات المتحدة حسب هذه المعايير تعتبر اسرائيل عبئا على تحركها وتعاونها الاقليمي ولا تعاملها الولايات المتحدة كرصيد استراتيجي .. وكانت اسرائيل تفضل أن تنشأ على الأقل آلية تعطي اسرائيل دورا ما في "القيادة المركزية" من غير استبعادها بالكامل من "القيادة الاوروبية" وكانت تفضل اسرائيل وضع "الذات الفاعلة" في القيادتين بدلا من ان تكون "ذاتا" مستبعدة من "القيادة المركزية" ومجرد "موضوع" (اي رصيد ملحق) في القيادة الاوروبية. وهكذا يكون في وسعها التدخل في منطقة "القيادة المركزية" ثم التمتع بالمهابة التي يوليها اياها الانتماء الى "القيادة الاوروبية".(24)
لقد وقف الدارسون للعلاقات الامريكية الاسرائيلية مواقف متباينة على ثلاث مستويات: دراسات على الصعيد الاكاديمي، وتقييمات رسمية وشبه رسمية ونظرات شعبية، وعلى الرغم من اختلاف هذه المستويات فهي متباينة .. هناك من يرى ان العلاقة لا تتعدى كون اسرائيل اداة امبريالية تخدم السياسة الامبريالية الامريكية، او اعتبارها قاعدة امبريالية، وهذه الفرضية تجعل من اسرائيل انتاج استعماري وفي الواقع فهذه الفرضية تقوم على تماهي بين كل ما جاء من الحيز الاوروبي او الأمريكي وبين الظاهرة الامبريالية.
والفكرة الصهيونية التي ترعرعت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كانت نتيجة تضافر ثلاث ظروف رئيسية(25): "الذاكرة الاوروبية" الخاصة بالجوالي اليهودية الاوروبية، ثم تفاقم المسألة اليهودية في اوروبا الشرقية نتيجة تنافي المشاعر القومية كعامل بين جملة عوامل اخرى في تلك المنطقة، وأخيرا الاندفاعة الامبريالية.!! واذا كان مسرح هذه العوامل الثلاثة هي اوروبا واوروبا وحدها، ولأن كان الاوروبيون، كما يأخذ العرب عليهم بحق، هم المسؤولون عن نشوء المشروع الصهيوني وتنفيذه، فإنه لا بد من التأكيد ان كل ما هو اوروبي او امريكي لا ينتمي بالضرورة الى جوهر امبريالي مزعوم .. فإن عاملين من بين العوامل الثلاثة: الذاكرة اليهودية وتفاقم المسأل اليهودية في اوروبا الشرقية في القرن التاسع عشر لا يصدران عن الامبريالية شأنها شأن القومية اليهودية التي جاءت كردة فعل على القوميات الاوروبية الشرقية. ويبقى ما فعله العامل الثالث وهو الاندفاعة الامبريالية والذي يمكن اعتباره بأنه قد قدم مخرج نظري وعملي خارج اوروبا لفكرة القومية اليهودية الاوروبية. فإن أحد أبعاد الصهيونية، أي من حيث كونها برنامج لاستعمار فلسطين، يندمج في "الاندفاعة الامبريالية" من دون ان يكون في خدمتها حكما وضرورة.
ويمكن تفسير الدعم الاوروبي-الامريكي للمشروع الصهيوني ثم بعدها لاسرائيل يشكل احد اوجه العلاقة بين الغرب وبين يهود اوروبا او المنحدرين من اصل اوروبي. فالمذابح في القرن التاسع عشر في اوروبا الشرقية ومجازر النازية هي وجه آخر من هذه الوجوه .. كما ان استيعاب اليهود بواسطة الدمج على الطريقة الفرنسية او بواسطة التعددية اللبرالية على الطريقة الامريكية يشكلان وجهين من وجوه هذه العلاقات، بين المجتمعات الاوروبية والامريكية من جهة وبين الجوالي اليهودية التي تعيش بين ظهرانيها او التي عاشت بينها طوال قرون عديدة. وعلى هذا فمن الممكن تحليل هذه الوجوه في جوهرها كأمور مستقلة عن اشكالية الامبريالية.(26)
ويرى كميل منصور: "حتى لو افترضنا ان الصهيونية كانت نتاجا امبرياليا محضا من دون اي تحديد جوهري، فمن الجائز لبعض المصالح الخاصة بالواقع الصهيوني – الاسرائيلي ان يتكون مع الزمن هكذا وبالتدريج، لم يعد في الامكان تحديد هذه المصالح بمجرد التفاعل مع المركز المقدم للدعم. لأنها تتكون تبعا للتوازن الاجتماعي والسياسي داخل اسرائيل، ولعلاقات اسرائيل بالجوالي اليهودية في العالم".(27)
ويضع كميل منصور مجموعة تفسيرات لفهم طبيعة العلاقة التي تربط اسرائيل بالولايات المتحدة وينقدها بعمق وهي:
- التفسير الأداتي: والتي ترى باسرائيل اداة امبريالية او قاعدة استعمارية. نشأت مع الأطماع الاستعمارية منذ القرن التاسع عشر. واقتدار القادة الصهاينة اقناع الاوروبيون بفائدة قيام دولة يهودية في فلسطين تخدم اطماعهم، ويستدلون على الدعم الاوروبي والامريكي المتواصل لاسرائيل .. وينبغي استخدام هذا المعنى بروية .. وخطورة هذا التوجه يكمن بأن الدبلوماسية العربية تغلق على نفسها دائرة العجز عن امكانية تحريك المصالح الاوروبية او الأمريكية لصالح القضية العربية، او يتنازلون طواعية عن مبدأ المنافسة، لأن بمقتضى هذا الفهم تصبح اسرائيل امتداد للغرب القوي الذي من الصعب الانتصار عليه، او تحقيق توازن معه.
ومن المفيد ان يستخدم العرب مفهوم الامبريالية كسياق وليس كأداة او ذريعة ومعنى ذلك ان الحركة الصهيونية استطاعت ان تستغل روح العصر الامبريالي لتحقيق خطوات امبريالية ..
- التفسير النفعي الذي يقوم على المنفعة المتبادلة بين طرفين وجميع هذه المصالح مثل:
أ- تلاقي المصالح والمخاطر مصالح لكل طرف وكذلك لدفع مخاطر لكل منها.
ب- الضغط الامريكي على اسرائيل وحدوده المفيدة، بحيث يقع الضغط الامريكي داخل ارادة الحفاظ على علاقات متميزة مع اسرائيل، وأن يتم التكتم على الضغوط الأكثر جدية والأكثر فعالية والاعلان جهارا عن ممارسة ضغوط خفيفة (كالإدانة اللفظية لضم الجولان عام 1981، وادانة اقامة المستوطنات في الاراضي الفلسطينة ... وغير ذلك).
- الدولة اليهودية – مقصد امريكي ام مشروع اسرائيلي، لا شك ان المشروع هو ارادة صهيونية ومقصد صهيوني استطاع ان يلائم مطالبه لروح العصر وان يجند لمشروعه قوى عظمى. فإن قادة الحركة الصهيونية اختاروا اختيارات كبرى ونتجت عن ارادة ولدت في اوروبا وقد أكد ذلك ثيودور هرتسل في مقدمة كتابه "الدولة اليهودية" ""اليهود الذين يريدون دولة سيحصلون عليها، ولن يكون ذلك وهما".(28)
كما يمكن تفسير العلاقات الخاصة بين الولايات المتحدة واسرائيل والأكثر شهرة هو:
التفسير بالدينامية الداخلية، وهو الدور الذي يقوم به اللوبي اليهودي في الضغط على متخذي القرار في الادارة الامريكية وهناك مؤسستان مهمتان هما: مؤتمر الرؤساء وإيباك.
1- مؤتمر الرؤساء وهو رءساء الجالية اليهودية والمنظمات اليهودية الامريكية الرئيسية. وهو الذي يقدم الماطلب الذي تجمع عليها الجاليى اليهودية للادارة الامريكية. وقد أسس هذه المؤسسة "مؤتمر الرؤساء" ناحوم غولدمان عام 1954 وهو يضم اكثر من 40 منظمة رئيسية، ويختار من بين اعضائه رئيسا مرة كل سنتين. وهو يستطيع ان يجتمع برئيس الولايات المتحدة في الوقت الذي يرغب فيه ويقوم بأعمال وساطة بين الادارة الامريكيةوبين اسرائيل.
2- أما ايباك فهي اللوبي الموالي لاسرائيل بالمعنى الدقيق، فهي مسجلة رسميا بهذه الصفة لدى امانتي مجلس الشيوخ ومجلس النواب مع الحقوق والواجبات التي تنص عليها االحكام الامريكية المتعلقة ب"اللوبيز" الجماعات الضاغطة وهذا اللوبي يعمل منذ عام 1951، ومجال عملها يتمحور مع الكونغرس والصعوبة التي واجهتها ايباك منذ البداية هي البرهنة عن انها ليست وكيلة لحكومة اجنبية .. وعلى الرغم ن كل ذلك فإن منظمة ايباك تنسق عملها مع الحكومة الاسرائيلية بشكل دقيق ووثيق جدا.

المعنى المتجول يتم دورته التاريخية:
إن المطلع على مناهج الدراسة في الجامعات والمعاهد الاسرائيلية في العقدين الأخيرين من القرن العشرين يلاحظ اهتماما متزايدا، سنة بعد أخرى بدراسة الثقافة والفكر والفلسفة في شرق وجنوب آسيا، خاصة ما كان من الفلسفة والميثولوجيا الصينية والهندية واليابانية، وخاصة الصين. وأصبحت كتب الميثولوجيا الصينية والهندية واليابانية وغيرها تثير اهتمام وشهية القارئ الاسرائيلي. وأصبح تعلم الآداب والتقاليد والأعراف لتلك الدول يتزايد وينشط باستمرار. وراحت كذلك في الخمسة عشر السنة الأخيرة الرحلات السياحية الى تلك المناطق. ناهيك عن التعاون العلمي والتكنولوجي وخاصة الزراعي المتطور بازدياد بين اسرائيل والصين.
أصبحت ترى افرادا وجماعات يهودية تهتم بتلك الديانات ومنهم من يعتنقها ويمارسها في الجبال وبين الكهوف والغابات، يخرجون ويمارسون تمارين اليوغا الروحية ساعات طويلة .. حتى ان الدلايلاما عندما زار اسرائيل ليبحث عن النقاط والقواسم المشتركة بين معتقداته وبين اليهودية فكلا الديانتين تعرضتا للملاحقات كأقليات في العالم. جاء الدلايلاما والتقى ببعض أتباعه من بين اليهود، الذين اعتنقوا في المدة الاخيرة معتقداته، ليتعلم من التجربة التاريخية لليهودية في التجوال ..
والأمر كذلك مع الحركة النشطة في ذات الاتجاه بما يتعلق باليهودية الجوّالة، خاصة الشركات الاقتصادية كعملية تكميلية بين النشاط الاسرائيلي وبين الجوّالة اليهودية .. هناك علاقات دبلوماسية حميمة بين كل من الهند والصين واسرائيل، خاصة ما كان من توثيق للعلاقات بين الصين واسرائيل على مستوى تبادل الخبرات في تكنولوجيا الزراعة وغيرها. وخلال عقد من الزمان فاقت هذه العلاقات في تعاونها وحرارتها تلك العلاقات التقليدية الباهتة والباردة القائمة بين الصين والهند وبين الدول العربية لعدة قرون. منذ الرسائل المتبادلة بين مارتن بوبر وبين الزعيم الروحي الهندي غاندي، حيث كان غاندي يدافع عن الحق العربي في فلسطين ولم يقتنع بصحة الموقف الصهيوني من فلسطين .. بل وصمها بالاستعمار.(29)
الدبلوماسية العربية مع هذه الدول في تراجع مستمر، بينما الاسرائيلية في تقدم مستمر .. إنه الفرق بين المنطق المتحول والمتحرك وبين المنطق الثابت والحركة الصاخبة الجامدة .. الدبلوماسية الاسرائيلية المتحركة تقوم بعملية تطويق واسعة النطاق على مستوى العالم من آسيا الى افريقيا واوروبا وامريكا لمحاصرة الدبلوماسية العربية، بطيئة الحركة والتي تحاصر نفسها بالمعوقات الذاتية التي تثقل حركتها، حركة عربية مثقلة معبأة بالهموم الفردية الأنانية غير الصادقة. هذا النشاط الاسرائيلي من اجل محاصرة العرب، المحاصرين اصلا بمعوقاتهم الذاتية، هو الذي يلتف بسرعة ليعزل القضية العربية والاسلامية من ان يصل صداها الى المجتمعات الانسانية بصوتها الاصيل الواضح وانما بصوت باهت مبهم غير مسموع ..
لم يستطع العرب تطوير آليات لتنشيط الفعاليات الدبلوماسية، حتى أصبحت السفارات والقنصليات ومكاتب الاعلام العربية والاسلامية في دول العالم عبئا ليس على الاقتصاد القومي فقط، بل عبئا على الاعلام نفسه بالصورة السلبية الذي يتركها هذا الاعلام عن العرب والاسلام في المحافل الدولية.
فاسرائيل لديها ما تبيعه للهند والصين:
1- لديها التكنولوجيا، خاصة تكنلوجيا الزراعة، وعلى سبيل المثال هناك "دفيئة" للتجارب الزراعية لا تقل عن الف دونم ترعاها الخبرة الاسرائيلية في الصين منذ منتصف سنوات التسعين من القرن الماضي. فعندما يسمع الصيني ان دونم من الارض (الف متر مربع) يعطي انتاجا عاليا ما بين 30-40 طنا من البندورة، هذا الأمر يحقق للصين توازنا ايجابيا بين عدد سكانها المتنامي وبين ما توفره الأرض المحدودة. فالتزايد السكاني على سطح الارض المحدودة لا يحل اشكالاته بغير التوسع الزراعي العمودي العمقي وهذا ما توفره له الخبرة الاسرائيلية ..!! في مقابل ذلك ماذا سيقدم لهم العالم العربي غير كلمات غير موزونة، وكلمات باهتة، فقدت صدقها واخلاصها وأصالتها..!
2- لديها الجوّالة اليهودية، الشركات التجارية العملاقة من الناحية الاقتصادية.
3- لديها التأثير على القرار السياسي في الولايات المتحدة .. وكأن الصين تنظر الى اسرائيل كبوابتها الى الغرب.
كان الاعلام الاسرائيلي يتحدث عن عائلة يهودية واحدة من اصل صيني، وهذا يظهر ان اليهودية لم تستطع اختراق الصين. ولربما لتقديراتها ان ليس من مصلحة فيما مضى من دور للصين في الحركة السياسية النشطة عالميا كما هو الحال في الحركة التاريخية المستمرة لاوروبا والشرق الاوسط من فعل ورد الفعل. ولهذا فمن المحتمل ان يظل التأثير اليهودي في سياسة الصين يقف عند الحافة على الجدار (سور الصين العظيم) الخارجي للشعب الصيني. كما كانت علاقتهم التاريخية بدولة المغول في القرون الوسطى.

خطوط غير متقاطعة:
اليهودية العالمية تحاول ان تقيم محطات للتعاون والتفاهم وتطوير العلاقات بين اليهودية العالمية واسرائيل من جهة، وبين الدول التي تسكنها الجوّالة اليهودية ... بينما في المقابل نرى التنظيمات والتشكيلات الاسلامية في كثير من الأحيان تفعل العكس، تعمل على إثارة نقمة تلك الدول التي تعيش فيها ضد العرب والمسلمين، عن طريق خطابها التحريضي ضد المجتمعات والدول التي تعيش فيها .. هذا الخطاب الذي رأينا فيما سبق من هذه الدراسة دور اليهودية في صياغة هذا الخطاب التحريضي المتطرف وتضعه في أفواه قيادات في تلك التشكيلات.
وهذا كذلك، يشير بكل وضوح الى ان المعنى المتجول يحاول تهيئة المناخ والبيئة التي يمكن ان تستوعبه وتستوعب حركته في كل من الهند والصين. ويبدو واضحا تأثير الدبلوماسية اليهودية على الفوارق السياسية لكل من الهند والصين فيما يخص القضايا العربية والاسلامية .. ويبدو كذلك جليا ان السياسة الصينية وكأنها تمر بمرحلة تدجين وتأليف مه وجهات النظر الاسرائيلية.
في الوقت الذي تعمل فيه اليهودية العالمية على تبيئة آسيا كما يرى ذلك مارتن بوبر(30)، فإن اليهودية على الرغم من وجودها في العصر الوسيط والحديث وحركتها في الغرب، لكن الشعب اليهودي لم ينس أنه في تاريخ مضى كان ابن هذا الشرق. وأفرغ فيه نشاطه الأدبي والديني فترة طويلة من الزمن .. وهذا يجعل الشعب اليهودي أقدر على دمج روح الشرق، روح آسيا بعقل الغرب".
وفي مقابل هذا النشاط لليهودية العالمية على صعيد آسيا والشرق الأوسط، فإنها تعمل بخط متواز لهذه السياسة فيما يتعلق بالولايات المتحدة الامريكية، بصفتها احدى القوى الاساسية والرئيسية في رسم وتخطيط سياسة الولايات المتحدة، على توتير العلاقات بين الولايات المتحدة – بكونها صاحبة السيادة على القرار الدولي – وبين العديد من دول العالم. بل لقد بلغ الامر حدا استعاضت فيه ادارة الولايات المتحدة عن مبدأ قيام علاقات دولية، بين دول العالم المختلفة وارتباط انظمتها بقوانين دولية تقرها المحافل الدولية المعتمدة والتي اقامها الغرب نفسه وأخذت صفة الشرعية الدولية، تجاوزت كل ذلك الادارة الامريكية وراحت تتدخل في الامور الداخلية للدول الاخرة، وتحاسب الاشخاص والمجموعات العرقية والطائفية في هذه الدول بناءً على تقارير المخابراتية الامريكية وكل ما لا يخدم المصلحة الامريكية، تبيح لنفسها التدخل في شؤونه الشخصية للجماعات والاشخاص والتنظيمات ذات الطابع المحلي، الذي هو من شأن الدول التي تحتضن هذه الجماعات .. وراحت تحاصر هذه الجماعة وتحارب تلك وتلقي المقاطعة والحرمان على بعضها، وتحظر التعامل مع بعضها. بتعبير آخر، تخوض الولايات المتحدة اليوم حربا على الحرية الشخصية للاشخاص والجماعات، فهي تحارب الانسانية وجها لوجه. هذا المأزق اوصلها اليه اصحاب النفوذ في رسم السياسة الامريكية .. وهذا ما يثير نقمة شعوب العالم وتجعل الولايات المتحدة تخوض صراعا طويلا ومريرا على المستوى الدولي وعلى المستوى المحلي ضد مجموعات سياسية ودينية وثقافية. وهذا يضطرها لخوض صراعات على كثير من الأصعدة بشكل دائم ومستمر. ويستنزف طاقاتها الاقتصادية والعسكرية ويفرغ مخزونها الأخلاقي والذي كانت تنظر اليه بعض الشعوب كرصيد انساني، الأمر الذي سيعجل في ضعفها وتفككها. لا سيما وهي تقود حربًا على أهداف وهمية غير محددة في طول العالم وعرضه، أهدافا صاغتها هي نفسها فيما مضى.

جدلية الماضي والحاضر عند اليهود والمسلمين:
يختلف اليهود في تصرفهم عن العرب والمسلمين، فاليهود يقومون بتوظيف تاريخهم وماضيهم وتراثهم من اجل تمكين حاضرهم وتطوير مستقبلهم. وتراهم يستثمرون في تربية الفرد والجماعة وتثقيفهم وتعليمهم أضعافا مضاعفة مما ينفقون على صيانة وقائع وأحداث الماضي، والتي لا يهملونها – فملاحقات النازية تم توظيفها في تهيئة المناخ العالمي لقيام الدولة اليهودية، ولزيادة قوة اليهودية واسرائيل بشكل عام. فدور العلم من جامعات ومعاهد ومراكز ابحاث ودور نشر من مجلات وصحف، في كل المجالات توليها الجوّالة اليهودية وكذلك دولة اسرائيل اهمية قصوى. فالميزانيات المخصصة للبحث العلمي في اسرائيل من اعلى نسب في العالم، بل هي اعلاها على الاطلاق.
بينما نرى العرب والمسلمين على عكس ذلك تماما. فالحاضر يتمّ توظيفه لمصلحة الماضي،
لمصلحة التراث، بل ان العرب والمسلمين يعيشون هموم الماضي وأحداثه اكثر من إحساسهم بهموم الحاضر على مرارتها فضلا عن غياب الرغبة في تنمية شعور الاهتمام بالمستقبل. فإذا كان حاضر المسلمين والعرب مستنسخ عن ماضيهم، واذا كان ماضيهم هو الحاضر في حياتهم، فهو الذي يفكر لهم فلماذا لا يفوق ما يستثمرونه بماضيهم ما يمنحوه لحاضرهم سواء كان جهدا عقليا ام ماديا؟ ما هي نسبة ميزانيات البحث العلمي الجدي عند العرب، تكاد في كثير من الحالات تلامس القاع.
فالحركة الاسلامية، على سبيل المثال، تستثمر ما يزيد عن 80% من الاموال التي تجمعها من صدقات وزكاة وكفارات وتبرعات وهي كثيرة نسبيا على صيانة المساجد والمقابر المهجورة منذ تهجير اهلها عام 1948 وعلى الاتباع والمريدين وعلى المهرجانات والمناسبات التاريخية، وهي في معظمها نكرس عملية الاتباع والتقليد .. بينما القليل بل النزر اليسير من هذه الميزانيات تصرف في ابواب كالتربية والتعليم، والندوات والمحاضرات، وأيام الدراسات والأبحاث والصحف والمجلات، التي هي في مجموعها إن وجدت فهي غير متخصصة ولا ترقى حتىالى الحد المقبول على الأوساط المتوسطة والضعيفة. فتجيء صحفها هزيلة ومجلاتها اقل هزلا، بينما تنعدم دور العلم ومراكز الأبحاث. ولهذا فإن وجدت مثل هذه الاهتمامات، فتظل اهتمامات شكلية تقليدية اتباعية محاكاة للتنظيمات الاخرى، بعيدة عن التخصصات والابداعات مما يؤثر تأثيرا مباشرا على انتاج الاشكال والمستويات البشرية المتدنية على المستوى الشخصي والجماعي للعرب والمسلمين، فتجيء قياداتها دون المستوى المطلوب، بينما يطالبها الواقع بمنافسة الآخرين الذين هم على اعلى مستوى من الكفاءات والقدرات .. هذه المستويات عند العرب والمسلمين لا تنتج عقولا باحثة، تستطيع ان تسأل الأسئلة الأساسية التي تفتح المجالات المعرفية بشتى حقولها وفروعها. الأمر الذي انتج عقولا استهلاكية تعيش وتتغذى وتنمو على ما أنتجه الماضي من التراث .. ويا ليتها تستطيع ان تعيد اجترار تراثها العلمي والفلسفي والفقهي الابداعي، وإنما وقفت عند حدود الخرافة والاسطورة من هذا التراث. وقفت عند حافته الخارجية وتناولته بصورة شكلية .. يكفي ان جمهور المسلمين والعرب ينفر من المقال الفلسفي والعلمي، وما يثيره من اشكاليات عسر الفهم، فتتردد الشكوى على أفواه الدعاة من الصف الأول وحتى الصف الأخير، باستعصاء الفهم وإشكاليات الادراك والاستيعاب والفهم لما يكتب في مجال الفكر والفلسفة. الأمر الذي يجعل من اجيال الأمة الحاضرة تستنسخ انماطا من الماضي من غير اجراء تعديلات ملائمة تتناسب مع الظرف المكاني والزماني .. تلك الأنماط التي يعاد استنساخها هي في غالبيتها الانماط الاكثر شعبوية وجماهيرية، الأقرب الى التمثيل السحري والاسطوري والتقليدي الاقرب الى الشاعرية الحالمة، او المبالغة في تخيّل الذات قياسا على منهج المبالغة في أشعار العرب في الفخر والمدح والثناء .. فصحف الحركة الاسلامية وما تدعي تسميته بمراكز "الأبحاث" على ندرتها ما هي الا وسائل تعيد تكريس وانتاج شعور الاعتماد على الماضي واستنساخه وبهذا تصبح معوقات على طريق النهضة والدعوة والعصرنة للعقلية المسلمة. الامر الذي ترك الأمة في حالة من الكسل والجمود، بحيث عملت على توظيف حاضرها البائس التعيس لمصلحة ماضيها. فشوهت الماضي بحماقة الحاضر .. كل هذا الواقع سهل امر توظيف هذا كله لمصلحة الآخر في حروبه وصراعاته مع المسلمين والعرب .. هذا الواقع، وعلى الصعيد نفسه استطاع توظيف فكر الامة على ضعفه وندرة وجوده ليس من اجل دراسة الواقع ومحاولة النهوض به، بل من اجل بعث المجد والحياة في الشخصيات المتنفذة من بينها، فتدور حولها، بل تطوف حولها تقديرا وتقديسا تجاوبا مع روح التقليد والاتباع السائدة في الأمة.
وبدل ان يطوف الاشخاص والجماعات ومن ثم الأمة حول عالم الفكر والعقيدة بطوفون حول عالم الأشياء حتى وإن كان هذا الشيء شخصية علمية او دينية او سياسية .. نحن اليوم منا من يطوف حول اهداف تاريخية كانت محط اهتمام الأمة فيما مضى من سالف امرها. ومنا من يطوف حول اهداف رسمها الاخر لنا وكل فئة تغني على ليلاها..!! كانت الأمة في ماضيها تعيش هموم حاضرها وتتفاعل معه تغييرا وتعديلا انتاجا وابداعا، تعيشها قضايا وأحداثا. ونحن اليوم نهرب من مشاكلنا وواقعنا مختبئين خلف الماضي ويا ليتنا نصدق ما قاله قس بن ساعدة الأيادي، أسقف نجران في العصر الجاهلي: "إنه من مات فات ...".
قد يعترض بعض محامي الماضي والتراث، بأن الحرب والصراع يتركز على اثبات هوية هذه البلاد، ونحن بنشاطنا وما نبذله من جهود، انما لإبراز القبور والمساجد التاريخية كجزء من هذا الصراع، لكي نثبت ونؤكد هوية هذه البلاد وطابعها العربي والاسلامي ..؟ هذا صحيح، ونحن نؤكد ذلك ولكن خلافنا مع حراس الماضي هو نسبة الجهود المبذولة من اجل التراث ونسبة الجهود المبذولة من اجل الانسان واعداده ليجابه حاضره ومستقبله .. هذه هي القضية.؟ أين ينبغي ان نبذل جهدا اكبر وأعظم على بناء هوية الانسان أم على اثبات هوية البلاد.؟ ماذا يفيدنا اثبات هوية البلاد، اذا ضاع انسان البلاد وكان فاقدا لهويته وانتمائه؟ اذا فقد الانسان اهتمامه بقضايا حاضره ومستقبله، ماذا تنفعه الدراسات الأثرية؟ ماذا ينفع علم الآثار اذا وضع تحت تصرف اللامبالي واللامنتمي الفاقد لهويته..؟
نحن لا نعترض على قيمة الاهتمام بالآثار التاريخية كالمقابر والمساجد وفائدتها، ولكننا لا نقبل بأن يحضر الماضي بصورة مقبرة مهجورة ومسجد هرب عنه أهله، بينما يغيب الانسان الذي يعمر هذه المقابر بالقبور وذلك المسجد بالسجود، لا يفيدنا كثيرا ان نثبت هوية الماضي ونخسر هوية الحاضر ممثلا بانسانه .. عندما يكون الاستثمار في ابراز الماضي بقبوره ومساجده اكثر بكثير من الاستثمار في بعث الحاضر للإنسان والأمة، يكون نشاطنا وفعلنا، ليس اسلاميا في الدرجة الاولى وليس انسانيا في الدرة الثانية .. وليس معقولا كذلك .. عندما يضعف الحاضر ممثلا بإنسانه يضعف تبعا لذلك الماضي، فالحاضر هو وعاء الماضي، فإذا صغر او ضاق صغر تبعا لذلك الماضي، واذا اتسع الحاضر اتسع الماضي تبعا لذلك. لأن الذي يبعث الاهتمام بالماضي هو الحاضر الفاعل المتحرك، وليس الحاضر الساكن الجامد. من اجل ذلك يقول الرسول الكريم ويقرر صلى الله عليه وسلم: "إن حرمة المؤمن عند الله أشد من حرمة الكعبة وأعظم". اي ان الانسان وقضية ايمانه بالله والاهتمام بقضايا هذا الانسان عن طريق رفع شأنه بالتعليم وتوفير الأمن والسلام ورعايته ينبغي ان تفوق رعايته المعابد والمساجد والمقابر وغيرها .. لأن الانسان الحاضر، بمعنى الكلمة، الحاضر بهويته الحاضر بفكره وبعقيدته، الحاضر بإبداعه وإنتاجه هو الذي يمسك الارض، وهو الذي يبعث التاريخ ويحافظ عليه. أما الانسان المسحوق بهويته وبفكره وعقيدته، فلن يمسك ارضا ولا تاريخا ولا تراثا، بل هو أول من يبرأ منها ويتنكر لها .. ومن ثم لن يكون في قدرته ان يستعيد مقبرة مهجورة او مسجدا فقد وظيفته .. لأن المسجد هو مسجد بوظيفته، وليس بقدسية ارضه وحجارته. وظيفة المسجد ان تؤدى به عبادة، وصلاة، والعبادة والصلاة يؤديها الانسانن فإذا غاب الانسان الذي يعمر هذه المساجد بالصلاة والسجود فماذا يبقى لتلك الابنية من وظيفة غير الاثر التاريخي؟!
حتى ان الجزء الكبير من الأموال التي تصرف في مجال الدعوة والتعليم على قلتها يكون من ضمن ما تصرف عليه الاعداد للمهرجانات والمناسبات التاريخية تصرف على عملية اجترار المناسبة التاريخية، لكي يبقى الشخص والمرء يعيش هموم الماضي اكثر مما ثير اهتمامه بإشكاليات الحاضر..!!
* * *
قد يمثل الشرق الاوسط وآسيا القارة العجوز تحد كبير أمام الجوّال اليهودي، هل يستطيع ان يداخلها ويصب نشاطه فيها ويبعث فيها الحضارة كما فعل باوروبا وامريكا من قبل .. وباحتلال النص الاسيوي من قبل المعنى المتجول، يكون الزمان قد أتم دورته، فينام فيشنو* يومه الكوني من جديد.
_____________
* هو اله حسب الاسطورة الهندية وينام في بداية كل يوم من ايام الكون ويوم براهما وطوله 4200 مليون سنة ارضية. وينام الإله فيشنو على ظهر حية كوبرا (sesha) والتي تحمل ألف رأس كرمز للزمن اللانهائي. ينام فوق الاقيانوس.
انظر كتابنا: "رحلة الانسان ما بين الفكر والاعتقاد" – دار الطلائع الناصرة 1995، ص43، 44.
الهوامش:
1. Jewish Statesmanship, Lest Israel Fall, Paul Eidelberg – سياسة يهودية لئلا نتهار اسرائيل – الترجمة العبرية – مركز أرئيل للدراسات السياسية + صندوق من اجل ديمقراطية دستورية – القدس 2000، ص19.
2. الكوزري، يهودا هليفي مع شرح الراب مردخاي جنيزي – تل ابيب يافا 1969، ص123، 124 واسم الكتاب في اصله العربي "الحجة والدليل في نصرة الدين الذليل".
3. المصدر السابق، ص125.
4. المصدر السابق، ص125.
5. Jewish Statesmanship, Lest Israel Fall, Paul Eidelberg – مصدر سابق، ص103.
6. المصدر السابق، ص103.
7. المصدر السابق، ص103.
8. المصدر السابق، ص17.
9. المصدر السابق، ص19.
10. المصدر السابق، ص8.
11. المصدر السابق، ص14.
12. المصدر السابق، ص51.
13. المصدر السابق، ص51.
14. المصدر السابق، ص52.
15. المصدر السابق، ص49.
16. David Ben-Gurion, Memoirs (New-York: World Punkidhing Co. 1970, p. 18-19.
17. "سياسة يهودية" او تنهار اسرائيل، مصدر سابق، ص158.
18. المثدر السابق، ص61.
19. المصدر السابق، ص64.
20. المصدر السابق، ص66.
21. المصدر السابق، ص217.
22. المصدر السابق، ص217.
23. Dore Gold, America the Gulf and Israel: CENTCOM – Center Command and Emerging U-S. Regional Security Policies in the Middle East (Tel-Aviv: The Jaffee Center for Strategic Studies Tel-Aviv University 1988 pp. 38, 92.
24. المصدر السابق، ص94-95.
25. الولايات المتحدة واسرائيل – العروة الاوثق – كميل منصور – مؤسسة الدراسات الفلسطينية – بيروت 1996، مترجم ، ص248.
26. المصدر السابق، ص249.
27. المصدر السابق، ص251.
28. Theodor Herzl, The Jewish State: An Attempt at a Modern Solution of the Jewish Question, London Pordes 1967
29. نظرية مارتن بوبر التربوية – أدير كوهين، اصدار يحداف 1976 – ص291-294.
30. المصدر السابق، ص282، 283.


المصادر
المصادر العربية:
1. القرآن الكريم.
2. الفكر السياسي – والأسئلة الأبدية – جلين تبندر – الجمعية المصرية لنشر المعرفة والثقافة العالمية – مترجم – محمد مصطفى غنيم – القاهرة ط1 1993 – الأصلية 1991.
3. نقد العقل السياسي: ريجيس دوبريه – دار الآداب ترجمة عفيف دمشقية – بيروت 1986.
4. الحروب وتوازن القوى – ابراهيم أبو خازم، الأهلية، لبنان 1999.
5. الفكر التاريخي عند الاغريق – أرنولد توينبي – الهيئة المصرية العامة للكتاب – ط2 – مترجم 1990.
6. زبغنيو بريجنسكي – الفوضى، ترجمة مالك فاضل، الأهلية عمان 1998.
7. طه عبد الرحمن – الحق العربي في الاختلاف الفسلفي – المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء – المغرب ط1 2002.
8. علم السياسة – د. محمد نصر مهنا – دار غريب للطباعة والنشر – القاهرة 1997.
9. كريستوفر نوريس – نظرية لا نقدية، ما بعد الحداثة، المثقفون وحرب الخليج. دار الكنوز الأدبية ط1، 1999، بيروت – مترجم عن االنجليزية.
10. رحلة الانسان ما بين الفكر والاعتقاد – محمد سعيد ريان – منشورات الطلائع – الناصرة، دائرة المعارف العربية 1995.
11. الشيعة والتصحيح – الصراع بين اشيعة والتشيع – د. موسى الموسوي – طبعة لوس انجلوس 1987.
12. الفتاوي – الامام محمود شلتوت (شيخ الازهر) ط2 دار القلم – القاهرة.
13. تعريف بمذاهب الشيعة الامامية – محمد احمد التركماني 0 جمعية عمال المطابع التعاونية – عمان 1983.
14. المختصر في علامات المهدي المنتظر – ابن حجر الهيثمي، تحقيق د. محمد زينهم محمد عزب، دار الصحوة للنشر القاهرة 1986.
15. عقيدة الامامية عند الشيعة الاثني عشرية – د. علي احمد السالوس – دار الاعتصام – القاهرة 1987.
16. التفسير الصوفي للقرآن عند الصادق د. علي زيعور – دار الاندلس ط1 1979 لبنان.
17. عندما يصغر التاريخ – محمد سعيد ريان – مركز الحضارة العربية – القاهرة 2002.
18. تاريخ الحضارات العام – مجلد القرن التاسع عشر – روبير شنيرب – منشورات عويدات – باريس ط3 1944 المجلد السادس.
19. اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان (مسلم والبخاري) وضعه محمد فؤاد عبد الباقي – الاجزاء من 1 -3 ، دار الحديث، القاهرة 1986، وهو من حديث الامام البخاري – الجزء الثاني ص 192، 193.
20. صهيونية جديدة نفاثة، اوراق اسرائيلية، مجموعة مقالات: إيلان بابيه، توم سيجف ورون بونداك – مدار 2001 رام الله فلسطين.
21. المبني والمعرب في دنيا السياسة – محمد سعيد ريان – الفصل الثاني والثالث – مركز الحضارة العربية – القاهرة 2002.
22. مقالة للقس رياض جرجور – موقع عرب 48 – المسيحية الصهيونية.
23. طه عبد الرحمن ومشروعه الفلسفي:- فقه الفلسفة – جزئات:
- تجديد المنهج في تقويم التراث – العمل الديني وتجديد العقل – سؤال الاخلاق – في اصول الحوار وتجديد علم الكلام – الميزان واللسان والتكوثر العقلي.
24. ابو يعرب المرزوقي – آفاق النهضة العربية – اصلاح العقل في الفلسفة العربية – وحدة الفكرين الديني والفسفي.
25. جورج طرابيشي: من النهضة الى الردة – دار الساقي 2000 بيروت.
26. الولايات المتحدة الامريكية واسرائيل، العروة الاوثق – كميل منصور – مؤسسة الدراسات الفلسطينية – مترم عن الانجليزية 1996 بيروت.


المصادر العبرية:
1. ثمن الأمن (محير هبطحون) تشكيل السياسة الأمنية للولايات المتحدة في سنتوات 1961 – 1969 – انطاهوفن + ق سميث، اصدار وزارة الدفاع الاسرائيلية 1974 – الترجمة العبرية.
2. مكتبة العمال – افنير ينيف – Politic and Strategy in Israel – جامعة حيفا – المعهد لدراسة الشرق الأوسط، يحمل اسم غوستاف هايمان، 1994.
3. Yehezkel Dror: A Grand Strategy for Israel, Jerusalem 1989 Academon – The Hebrew Univ. Student – الطبعة العبرية.
4. War and Strategy – Yehoshafat Harkabi – اصدار وزارة الدفاع الاسرائيلية – بالعبرية – تل ابيب 1990.
5. Nuclear War and Nuclear Peace (Brig. Gen.) Y. Harkabi – اصدار وزارة الدفاع الاسرائيلية تل ابيب 1964.
6. Politics anong Nations – Hans Morgenthoou – اصدار اتحاد الناشرين يحداف 1968 – المجلد الثاني.
7. Realism Without Telos: Dr. Meir Stieglits – بابيروس للنشر تل ابيب 1992.
8. ما وراء الخير والشر – نيتشه – الترجمة العبرية – د. يسرائيل ألداد – تل ابيب 1967.
9. المستعربين الاوائل (همستعريفيم هاريشونيم) – جمليئيل كوهين – وزارة الدفاع الاسرائيلي 2002.
10. أطلس العالم – اوران نهري ط1 2003 مبّاه.
11. نظرية مارتن بوبر التربوية: د. أدير كوهين، يحداف للنشر – تل ابيب 1976 – Martin Buber: On Education by: Dr. Adir Cohen.
12. دور اليهود في النهضة الايطالية – هيهوديم بتربوت هرينسانس بإيطاليا – بتصلايل روت – مؤسسة بيالك القدس 1962.
13. هإسلام اعولموت هشزوريم بو – The intertwined Worlds of Islam – Essays in Memory of Hava Lazraus Yafeh – Israel Jerosalem 2002.
14. ألكوزري – يهودا هليفي – مع شرح الراب مردخاي جنينري – تل ابيب-يافا 1969- واسم الكتاب في اصله العربي (الحجة والدليل في نصرة الدين الذليل).
15. مديناءوت يهوديت لبال تيموط يسرائيل (سياسة يهودية لئلا تنهار اسرائيل) باول ايديلبيرغ – 2000 الترجمة العبرية.


المصادر الانجليزية:
1. Nahum Goldman, The Jewish Paradox – Israel, Universities Press, Jerusalem 1968.
2. Dictionary of Politics: David Robertson, Benguin Books 1993.
3. The Moddle East and U.S. : Haim Shaked and Itamar Rabinovich, New Brunswick – U.S.A 1980.
4. Thucydides: History Book 1-7 , J.W. Edwars + Ann Arbor, Michigan 1946.
5. Webster’s New University Unabridged Dictionary, Barne’s and Noble Books, 1992 U.S.A..
6. Handbook of World History, Joseph Dunner Oeter Owen London 1967.
7. Abraham I. Katsh, The Biblical Heritage of American Democracy – N.Y. : KTAV Publishing House Inc. 1977.
8. David Ben-Gurion, Memoirs – New York: World Publishing Co. 1970 p. 18-19.
9. Dore Gold, America the Gulf and Israel CENTCOM, Tel-Aviv: The Jaffe Center for Strategic Studies. Tel-Aviv University 1988.
10. Theodor Herzl, The Jewish State: An Attempt at Modern Solution of the Jewish Question, Lindon, H. Pordes 1967.


المجلات العربية:
1. الصراط – ام الفحم نوفمبر 1990 – دراسات في السياسة الواقعية – أزمة الخليج في ضوء نظرية توازن القوى.
2. الصراط، ام الفحم – عدد حزيران 1987.
3. حراء – كابول 1989 – الانقلاب الايراني في ضوء نظرية توازن القوى.
4. فصلية البرهان – العدد الاول صيف 2002 "جدلية الفكر اليهودي: تجول المعاني في نطاق الحيز المتغير" محمد سعيد ريان – مؤسسة القلم الاكاديمية – الناصرة.
5. فصلية "الكرمل" الثقافية في عددها 54 شتاء عام 1998 – تصدر عن مؤسسة الكرمل الثقافية – رام الله – فلسطين.

المجلات العبرية:
1. المؤتمر السنوي السادس للرابطة الفلسفية الاسرائيلية الجديدة – محاضرة صبحي ريان في جامعة تل ابيب 13 شباط 2003، ص 30 – "العقل في الفسفة الاسلامية".
المجلات الانجليزية:
1. Combarative Politics, October 1988 – The Politics of Higher Education: Political Science as a Case Study, Theodore J. Lowi.
2. Comparative Politics: Macro Theories and Micro Application – Joseph La Palombara – October 1968.
3. The American Political Science Review – December 1970: Concept Misformation in Comparativ Politics. Giovanni Sartori.


صحف:
1. "الهموم القومية وهموم الناس – د. عزمي بشارة – فصل المقال – الناصرة 2.5.03 .

אין תגובות:

הוסף רשומת תגובה