יום רביעי, 28 ביולי 2010

فان فئة العلمانيين لم تتمكن ايضا من هضم حضارة الغرب فاستخدمت كل ما أنتجه من آلات ومنطق ومفاهيم في غير مكانه وخارج فضاءه ، مما ساهم في ارتباك العقل العربي والاسلامي الحديثين . * وهكذا وقف العلمانيون العرب او الحداثيون على مشاربهم في مناطق الظلال للحضارة الغربية، من غير ان تنبت لهم جذور ويرتفع لهم ساق او ينمو لهم غصن يمكن ان يحمل ثمرة ما ، وهكذا استظلوا بغيرهم من غير ان يتكون لهم ظلا ، ومن لا ظل له لا يستظل به أحد، فالماركسي العربي لم يستطع ان يضيف شيئا جديدا او تفسيرا جديدا للماركسية ، والوجودي العربي لم ينتج وجودية، ولم يضف كذلك للوجودية جديد، وقِس على ذلك كل الاتجاهات الفكرية الحديثة ، ينتفخ زهواً وغروراً امام ابناء جلدته ويتعالى عليهم بحداثة يدعيها ، وبوجودية يؤمن بها ، بينما في الحقيقة لا يشعر بوجوده احد ممن يعتنقون الماركسية أو الوجودية ، حيث لم يبق وراءه اضافات تحمل اسمه ، وجلّ ما يصبوا اليه حصوله على بطاقة تبيح له دخول قاعة الوجوديين او الماركسيين او الوضعين البرجماتيين .
الذات البشرية ليست كاميرا مجردة عن العواطف: 2:3:4: وتلحق الفئة الثانية ، نخبة من المثقفين العلمانيين العرب ، تعيش في اوروبا والولايات المتحدة ، تعتبر نفسها نخبة النخبة وصفوتها ، تحاول ان تكمل رسالة الاستشراق بآلياتها ومفاهيمها التي تقاضي بها التراث العربي الاسلامي، وهكذا اخضعت هذه النخبة التراث العربي الاسلامي ثم النص القرآني لآليات البحث التي انتجتها الثقافة الغربية، التي ارتكزت على المعطيات الاغريقية ، كما نقلها ابن رشد مجردة عن الاضافات والتقييمات النقدية لعلماء المسلمين (كالغزالي وابن تيمية وابن سينا وابن خلدون وغيرهم) ، تلك الاضافات والتحليلات التي يمكن ان تعتبر في العديد من جوانبها أسس ومرتكزات للعديد من الفلسفات والافكار المنتشرة اليوم في بعض المدارس الفكرية الغربية ، والتي تجاوزت منطلقات عصر التنوير بالكثير من فروعه ، حيث لم تعد الفلسفة اليونانية هي المعتمدة علمياً كما ذهب الى ذلك ابن رشد ، عندما جعل الفكر اليوناني هو المقياس الذي تقاس به الامور الثقافية العامة . * هذه الفئة التي قاضت التراث الاسلامي الى أدوات ووسائل غير التي ارتكزت اليها الثقافة الاسلامية ، وهذه الفئة التي يقف على رأسها محمد عابد الجابري ومحمد أركون وغيرهم ، ذهبت الى اخضاع ليس فقط التراث لعملية تفكيك النصوص بمقتضى أساليب ومناهج أدبية وعلم اللسانيات بل شملت ايضا النصوص القرآنية ، اي جعلت من البشري قاضياً على الالهي ، ومن الزمني على الأزلي ، ليس من اجل فهم معانيه ومقاصده كما كان يفعل المفسرون القدامى حين كانوا ينظرون في لغة العرب كيف استعمل هذا التعبير او ذاك ، وانما بقصد القبض على النص والامساك به مجردا عن ازليته ليوضع في قفص زماني محدد، ثم يسقطون عليه معايير لحظة زمانية محددة ويحيلونها الى مقاس عام لكل الازمنة ، حتى وان ادعوا بأنهم يقاضون النص القرآني الى الفترة الزمنية ، التي تنزل بها اي الى بيئتها ومحيطها الثقافي، ولكن يظل الأمر الى أي حد تستطيع اللحظة الآنية واليتها التجرد من وسطها الثقافي وظروفها الموضوعية التي هي جزء من توليفتها وتركيبتها لتمخر عباب الماضي وتعيش حقيقة الزمن"الآخر" غير زمانها ، وهل هناك موقف موضوعي خالص مجرداً عن الذاتية؟ او ان الموضوعية المتشكلة كما تراها الذات او تصور الذات لهذه الواقعة الموضوعة ، والذات ليس عقلاً مجرداً عن المشاعر والعواطف والأحاسيس، الذات هي كل ذلك فاذا تحركت في اي اتجاه تحركت كيانا واحدا، وأسقطت على اللحظة التاريخية المحددة ذاتها بمجموع كيانها ، والذات الانسانية ليست جبلا ولا بحرا ولا هواء حتى تلتقط صورها كما تفعل ذلك الكاميرا وهي تلتقط صوراً طبيعية ، وآلية اركون التي يستخدمها في تفكيك نصوص الكتاب المقدس، هي آلية تحمل كل مواصفات الذات البشرية فهي ليست عيناً تبصر مجردة عن العواطف والمشاعر والانتماءات ، العين التي تبصر الحبيب العاشق بكيان متكامل من المشاعر والأحاسيس ترى فيه قمة الجمال اكثر بكثير من اي مخلوق اخر لا تربطه بها مشاعر حب مهما بدا للغير جميلا، وكذلك الآلة اللسانية التي يستخدمها أركون وغيره في قراءة النص المقدس او حتى نصوص التراث لا يمكن ان تكون مجردة عن كل ما يلحق الذات البشرية من أحاسيس وعواطف، فهي ليست كاميرا يخترق بها اركون ومدرسته حجب الماضي ليلتقط صورة لذلك الماضي البعيد مجردة عن العواطف. 1:2:3:4: تاريخانية محمد أركون : يعمل أركون الى إسقاط منهج التاريخانية على النص القرآني ، بتعبير آخر مقاضاة النص القرآني الالهي لوسائل النقد الأدبي الحديث، وعلى الرغم ومن ان أركون يزعم بأن القرآن نص الهي، ولكنه بعملية اخضاع نصوصه لآليات ادبية ، ولأسس التاريخانية المشروطة بالزمن التاريخي يكون قد أبطل زعمه هذا ، حيث قاضي النص الذي يحتوي على الزمن اللامحدود الى لحظة تاريخية معينة ، وكأن النص المقدس تراثا يحمل سيمة اللحظة التاريخية ساعة تنزلّه . بينما الأمر بالنسبة للمؤمنين هو ان هذا النص يحوي من حركة المعاني ما لا يستطيع زمان حدّه وتقييده وهي محاولة مقاضاة النهائي للانهائي، والمحدود للمطلق، والبشري للالهي، والتاريخي لما هو فوق التاريخ ..وهذه عملية تنطلق من أسس النظرية الحلولية بتعبير أبو يعرب المرزوقي .ترمي الى تجسيد ما هو الهي ، وعملية محاصرة للنص العابر للتاريخ لمعطيات تاريخية ، وتطويق الأزلي بالحد الزماني ، ومقاضاة الآخرة"لقوانين الدنيا" وأخشى ان يكون أركون ومدرسته تظن ان النص وما يحمله من معان انسانية تخضع لرؤية الذات ، التي تنظر الى النص في ساعة تنزله الاولى ، كمن ينظر الى ضوء نجم يبعد عنا كذا من السنين الضوئية هو يظن انّ الضوء الذي يراه في هذه اللحظة التاريخية المعينة هو الضوء المنبعث الان من النجم بينما هو يرى الان الضوء الذي انبعث قبل كذا من السنوات !! * الخطاب الأركوني يحمل بين طياته معاني الخطاب الديني التراثي السلفي ، فهو ينظر الى الكيان والذات الانسانية ، كما لو كانت مؤلفة من عوالم متمايزة ومتنافرة ، وكأن هذه الذات لملمة أطراف وأجزاء ، ويتصور ان الذات الانسانية كحانوت من الفواكه والخضراوات التي تحتوي على مجموعة منفصلة من هذه الأنواع ، فجعلوا من هذا الكيان والذات المتكاملة أجزاء متنافرة ومتعارضة وكأن الوجدان والنفس والعقل والفطرة والغريزة لا تتحرك في الذات الواحدة حركة واحدة متجانسة ، بل تعيش في حرب فيما بينها وهكذا التقى الخطاب العلماني العربي بالخطاب الديني السلفي ، فجعلوا ؛الوحي" في مواجهة" العقل" وجعلوا"الشريعة" في مواجهة "الحكمة" وجعلوا العواطف والمشاعر في مواجهة العقل، والمثالية في مواجهة الواقعية والبرغماتية. *يتحول خطاب أركون من حديث عام الى تقييد وتخصيص موجهاً للمغاربة على شكل نصيحة:"... ينبغي على المغاربة ان يفكروا بالظاهرة الدينية ويتركوا التفكير بالاسلام مباشرة ، لأن الاسلام ليس الا أحد تجلياتها ، واذا ما عرفوا كيف يفكرون بالظاهرة الدينية بعيون جديدة ، فان الفكر المغاربي سوف يساهم ثقافيا وتاريخيا في البلورة الجارية حاليا للحداثة".(11) فأركون هنا يقوم بعملية تخصيص وتعميم متعارضة لا تقوم على صعيد واحد وغير منسجمة: 1: اقتطاع المغرب العربي من جسم الامة العربية والاسلامية ، كمشروع تجزئة للواقع العربي لكي يساهم المغرب العربي بخصوصيته في المجال الثقافي الغربي، بينما يرى في الوقت ذاته ، فرنسا التي يعيش فيها ، تعمل بكل طاقاتها من أجل جمع الامم الاوروبية في وحدة واحدة ، وفي كيان سياسي واحد..أمم مختلفة بلغات مختلفة ، وأعراف متباينة تسعى لتصبح امة اوروبية..بينما يرى أركون ان الامة الواحدة ذات الاصل واللغة والثقافة والدين والتاريخ الواحد ان تصبح امماً شتى ذات خطابات متعددة. 2: في الوقت الذي يسعى أركون لتجزئة الامة العربية والاسلامية يقدم أطروحة مناقضة فيما يتعلق بالاسلام، فهو يرى ان يفقد الاسلام استقلاله وخصوصيته ، كدين خاتم ودين مهيمن على الديانات من قبله لكي يندمج في الظاهرة الدينية العالمية ، بتعبير أدق ، لكي يندمج بـ : 1:2: "المسيحية الصهيونية" وهذا الطرح يفقد الاسلام أجوبته المتميزة على أسئلة العصر ، التي قد تُحرج بعض الظواهر الدينية غير الاسلاميه. 2:2: وهو بهذا الطرح الاندماجي للاسلام في الظاهرة الدينية يريد مع العلمانيين في عصر التنوير، وتعميم ذلك على الظاهرة الدينية بشكل عام ، من غير ان يأخذ بعين الاعتبار، النقد الذي وجهه الاسلام ضد التحريفات التي دخلت على بعض الاديان كاليهودية والمسيحية ، يقول ابو يعرب المرزوقي :" فالكلام والفلسفة سعيا في اللحظة العربية الاسلامية الى تحرير العقل من التقابل بين الفلسفة المستندة الى النظرية الاولى . والدين المستند الى النظرة الثانية، تخليصا للأمرين من الاطلاق الذي يجعلهما جموديين ، فناظر القول بالتحريف الديني الذي بنى عليه الاصلاح المحمدي، نفذ التجربتين الموسوية والعيسوية ، ما يمكن ان نصطلح على تسميته بالقول بالتحريف الفلسفي الذي بنى عليه الفكر العربي الاسلامي نقد التجربتين الأفلاطونية والأرسطية. (12) وما أطلق عليه المرزوقي بالنظرية الحلولية(المسيحية واليهودية) وما لحقهما من تحريف طال المعتقد والاصول ، وفي مقابل ذلك نظرية الاسلام الاستخلافية.






















5. الخلاصة: ان الامة وكذلك الحضارة التي لا تبدع ولا تنتج منظومة مفاهيمها الخاصة من حصيلتها الثقافية ، هي امة قد تعطلت فيها وظيفة العقل ، وهي حضارة استهلاكية منحطة تعيش عالة على ما ينتجه غيرها ، سواء كان هذا الغير هو الماضي وترسباته او كان "الآخر" سواء كان هذا الاخر خصماً او منافساً . فالامة وكذلك اللغة الحية المستعملة ، لا تستغني عن استعمال المفاهيم في التعبير عن حاجاتها واحتياجاتها ، وهذه المفاهيم إما ان تنمو في بيئتها الثقافية وتتنفس من فضائها الفكري وإما ان تستعير مفاهيمها من بيئة اخرى .. وقد جبلت النفوس على حب ما تفرع عنها ولهذه المفاهيم والتعابير والمصطلحات التي تنتجها اللغة والامة وقع وتأثير واضح على النفوس أكثر بكثير من التعابير المستعارة أو التي يتم اختلاسها من حين لآخر ، وهكذا فان الحضارات والامم الاخرى التي تستطيع انتاج مثل هذه المفاهيم ، تسعى جاهدة لتسويقها لدى الامم التي اصابها العقم في انتاجة او تخصيب المفاهيم ، لأن حجم تأثيرها في حضارات الغير وحياة الامم تتناسب تناسبا طرديا مع حجم مبيعاتها من هذه المفاهيم . والامة الاسلامية منذ قرون عديدة ، منذ صادرت حرية النظر والتعقل، وأقفلت باب الاجتهاد في المجال الديني ، ومنعت حق الاختلاف او الاجتهاد فيما اجتهد به الأولون ، مما جعل الامة تفقد تأثيرها على "الآخرين" تدريجيا ، وذهب مع ذلك رويدا رويدا ابداعها في مجالات الحياة الاخرى ، فالذي لا يجتهد او يمنع من الاجتهاد في امور الدين لا بد ان يؤثر ذلك في حقول المعرفة الاخرى، فقد صدّرت الامة في مجال علوم الفلك مثلاً مئات الاسماء لنجوم وأجرام فلكية ما زالت تحمل اسماءها العربية ، وقد أعطت كذلك في مجال الرياضيات والبصريات والكيمياء والطب وغير ذلك ، كان ذلك والحركة العقلية لديها تعمل باستمرار ، فلما استأثرت الثقافة الدخيلة ، ثقافة التلبيس على الأمة في دينها وفكرها ، وخلطت مفاهيم الالوهية بمفاهيم الأدمية ، عندما استكانت الامة لحضانة "الماضي المقدس" مستعيرة منه كل شيء من المفاهيم والتعابير والافكار والتأويل والتفسير وحتى السبحة والعمامة واللحية ، عملية تلبيس المفاهيم هذه مع مرور الزمن انتجت عقلية سلفية وهذه الذهنية راحت تستنسخ الماضي باستمرار وتستمرئ هذا الفعل الكسول . ظل الأمر كذلك، بقوة الاندفاع الذاتي، حتى احتكت الامة بالحضارات الاخرى من حولها ، وبُهرت بتفوق تلك الامم ، وما وصلت اليه من مدينة وثقافة ، مما أثار دهشتها ، ثم اضطرت تحت صدمة الاعجاب وشدته من استعادة المفاهيم من أسواق تلك الامم، كما هو حاصل اليوم ، في احتكام العديد من نخبنا الثقافية الى استيراد المفاهيم او اختلاسها من عند "الآخرين" خاصة الاخر الغربي، ثم يُقاضون اليها ثقافتهم وتراثهم . من العدل والموضوعية ان ننقد تراثنا بالمفاهيم والآليات والمنطق الذي أنتجه هذا التراث، او بأدوات ووسائل انتجناها بأنفسنا من وسطنا ومن فضائنا الثقافي والفكري والقيمي، لكن من الظلم والخطأ ان نقاضيه الى مفاهيم وآليات تم انتاجها من ثقافة "الآخر" الغربي بشكل خاص، الثقافة والعقائد التي قام الاسلام بعملية نقد جوهري لها ، اين العدل في ان نقاضي حالة "الايمان" بمقتضى مفاهيم "الالحاد"؟ الالحاد الذي يلغي الايمان وينفيه ويقصيه عن مجاله التحاوري . فهناك فرق كبير بين اسلوب الحوار ومنهجه عند الملحدين ، قياسا مع اسلوب ومنهج الحوار الاسلامي :الكافر يقصي ويمنع محاوره كما يصور لنا ذلك ، القرآن الكريم :{ قال فرعون ما أريكم الا ما ارى وما اهديكم الا سبيل الرشاد}(غامر 29). {وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا او لتعودُن في ملتنا} (ابراهيم 13) . وكذلك :{ لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا او لتعودن في ملتنا، قال أولوْ كنا كارهين}(الاعراف8).{ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز} (هود 91) هدد به قوم شعيب شعيبا ، وكذلك قول والد ابراهيم لابراهيم ، عندما وعظه نبي الله ابراهيم ؛ باسلوب غاية في الرحمة والحنان : يا أبتي ...يا أبتي... يا أبتي يكررها مرات عديدة حتى ضاق والده ه ذرعاً فرد عليها بهذا الخطاب نفسه الذي يصدر عن المجتمع الكافر :{ لئن لم تنتهِ لأرجمنّك واهجرني ملياً} (مريم 46). بينما نجد المحاور المسلم ، يهيئ مناخ الحوار والوسط الجدلي قبل بدء المحاورة، فيقوم المحاور المسلم بتحييد المواقف الذاتية والشخصية ما وسعه ذلك ، ويبدأ الحوار بنفسية من يبغي الحقيقة ، ويقف المتحاوران على أرضية واحدة ،. بل ان المحاور المسلم يعطي محاوره الموقف الافضل ، يقول القرآن الكريم في ذلك : { وإنا أو إياكم لعلى هدى او في ضلال مبين}(سبأ 24) ثم يردفها بالآية :{ قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون} (سبأ 25). في الآية الاولى ينطلق المحاور المسلم من أرضية حيادية مشتركة ، اي سيسمح لنفسه ان يفترض انه على الخطأ او الضلال، وان امكانية ان يكون الصواب الى جانب محاوره ، وهذه النهج في الحوار يجعل للحوار رسالة محددة في بيان صواب الافكار والمواقف من فسادها ، من ثم الخروج من الخطأ الى حيث الصواب هي الوظيفة النهائية لكل حوار لأنها تقود الى النهوض والتقدم . ثم يذهب المحاور المسلم خطوة اخرى في اتجاه محاوره ، في التمكين له من الحوار بحرية وجرأة أكبر ، حين يضع المسلم "المحاور" مع بدايات الحوار ، وكأن الصواب أقرب الى المناظر غير المسلم منه الى المناظر المسلم، وكأن موقف المسلم أقرب الى الخطأ، فلا يسأل محاوره عما قد يكون قد اكتسب من الإثم والإجرام ، الذي لا يلحق المحاور منه بأس او ظلم من جراء عملية الحوار، واستعمل القرآن الكريم في تعبيره عن نتائج عمل ونشاط المحاور غير المسلم بلفظ " لا نسأل عما تعملون" بينما استعمل في حق المسلم- في نطاق عملية الحوار- لفظ:" لا تسألون عما أجرمنا". ومن هنا فان الأدب الاسلامي يُقوّم خصمه ويقاضيه الى مفاهيمه هو او الى مقياس عام مشترك بين المتحاورين وسوف أورد هنا نصا لمفكر شهير ممن نقدوا "العقل العربي" وهو عبد الله العروي في كتابه مفهوم العقل" حينما يقاضي ابن خلدون وموقفه من مفهوم الحرب أو "المدافعة" الى مفهوم الحرب عند مفكر غربي، بحيث يصبح تعريف المفكر الغربي هو المقياس الموضوعي العام الذي تقاس عليه المفاهيم الاخرى عن الحرب ، فيقول :" الحرب ظاهرة اجتماعية ، شأنها شأن التجارة والسياسة ". هذا ما يؤكده كلاوزفيتش بعد تأمل وفحص ، وهو حكم هام وشامل (!!!!) يتحقق عند ابن خلدون كما يتحقق عند غيره ، فلا تتعدى نظرة اي كان عن الحرب نظرته الى التجارة والسياسية ، الفرق ،كل الفرق، بين هذا المفكر او ذاك هو في مستوى ما يعرف عن التجارة والسياسية والحرب" . (13) وهكذا يقاضي عبد الله العروي ، ابن خلدون بمقتضى مفهوم كلاوزفيتش عن الحرب، بحيث يصبح حكمه عام وشامل، لأنه جاء بعد " تأمل وفحص" وهو يتحقق عند ابن خلدون كما يتحقق عند غيره، فقد أصبح تعريف كلاوزفيتش للحرب كأنه بديهة رياضية، كما لو قلنا :" الاثنين أقل من الثلاثة" و"الانسان لا يكون في موضعين اثنين في ذات الوقت : فالحرب تجارة وسياسة ، وليس شيئا غير ذلك ، لو قيل للعروي ان الحرب في مفهومها الاسلامي القرآني تختلف عما قاله كلاوزفيتش ، أتراه يقيم لذلك وزنا ما ؟ لماذا لا يكون تعريف القرآن المقدس عاما وشاملا ، وقد جاء من عند الله ؟ من وجهة نظر اسلامية ، اذا قيل للمسلم ان الله ، سبحانه ، يأمر بكذا وينهي عن كذا وكذا، فان صدق المسلم مع دينه وربه فسوف ينفذ في الحال ما يؤمر به او ما ينهى عنه ، وسوف نورد بعض الآيات القرآنية لتؤكد عكس تعريف ومفهوم كلاوزفيتش للحرب، حيث يقول الحق تبارك وتعالى :{ ان الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص}(الصف 4) اذا هناك قتال وحرب غايتها وهدفها يتحقق بتحصيل المسلم لرضاء الله سبحانه ، ومعنى في سبيل الله، اي من اجل تحقيق الحق والعدل ، ودفعاً للظلم والفساد ، اذا هي حرب غايتها اقامة العدل بين الناس واحقاق الحق ، ويقول الحق سبحانه :{يقاتلون في سبيل فيقتلون ويقتلون ..} (التوبة 111) وقوله تعالى :{ وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذي يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ، واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا} (النساء 75). وهذه الآية تفصل القول فيما يشتمل عليه معنى "في سبيل الله "فبالاضافة الى ما ذكرناه أعلاه ، القتال من أجل نصرة المستضعفين المظلومين ورد حقوقهم ، ورفع الظلم والغبن عنهم . وهذا قتال دوافعه اخلاقية وقيمية من اجل ارساء دعائم الحق والعدل بين الناس. وقوله تعالى :{ ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول ..} (المائدة 13 )وهنا وجوب قتال من نكث العهد وغدر بالناس وبالمسلمين . وقوله تبارك وتعالى :{ ولتكن منكم امة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف}(آل عمران 104) . وهناك عشرات الآيات ، تحمل نفس المعنى والدلالة ، وكلها تدل دلالة قاطعة ان الحرب والقتال في مفهومها القرآني الاسلامي تختلف اختلافا بيناً عن مفهوم كلاوزفيتش ، اذ هي أبعد ما تكون عن حروب الاستعمار من أجل نهب ثروات المستعمرات وسرقة خيراتها، او ان تقاس ما فيها من ربح مادي او خسارة . فاحتلال امريكا لافغانستان والعراق بحجة اخلاقية واهية وهي تخليص شعوب من أنظمة الاستبداد والاضطهاد ، ما هي إلا فرية وغطاء مكشوف، فهي حرب تجارية على مقياس كلاوزفيتش ترمي الى السيطرة على منابع ومصادر الطاقة في العالم ، لو كان في حروب امريكا اخلاقيات ، لما وقفت بآلتها العسكرية الجبارة ضد حقوق الشعب الفلسطيني ، ومن اجل رفع المعاناة اليومية عن اطفاله وشيوخه ، بل هي عون على من احتل ارضه وشرده من دياره ووطنه، بل أكثر من ذلك ، ان تصبح المقاومة للاحتلال في القاموس الاخلاقي للولايات المتحدة ، ارهابا ينبغي اجتثاثه من العالم .... اين هي مفاهيم الديمقراطية عندما تسعى لاجتثاث كل من يعترض على سياستها وغطرستها ..المقاومة الفلسطينية ارهابا في وجه المحتل الاسرائيلي، وحزب الله والمقاومة اللبنانية للاحتلال الاسرائيلي ارهابا .. المقاومة العراقية للجيوش الاجنبية الغازية والمحتلة لأرضه، تصبح ارهابا ، وكذلك المقاومة في افغانستان والفلبين وغيرها من بلاد العالم ؟ اما القوات السورية التي طلبتها الحكومة الشرعية اللبنانية والجامعة العربية ، فهي جيوش محتلة ينبغي ان تخرج من لبنان والحكومة اللبنانية والشعب اللبناني بغالبيته يطلب منها البقاء لتحافظ على تثبيت موازنة المعادلة السياسية في لبنان وتعمل على استقراره ، لكن الاخلاقيات التي تشع من تمثال "الحرية" في الولايات المتحدة ترى مصلحة لبنان بغير ما يراه اللبنانيون وتعرف امريكا مصلحة الشعوب اكثر مما تعرفه هذه الشعوب في تحديد مصالحها، انها وقاحة المستعمر في كل آن وحين . في إحدى معارك المسلمين وحروبهم ، اضطر احد قادتهم العسكريين الى الانسحاب من احدى المدن والتراجع عنها ضمن خطة شاملة ، فقام بإرجاع الضريبة التي اخذها من الاهالي في مقابل حماية املاكهم وأنفسهم ، وعندما سأله سكان المدينة لماذا يرجع الاموال التي اخذها منهم؟ أجاب: أخذناها بحق الدفاع عنكم وحمايتكم ، فلما لم نستطع توفير الحماية لكم في هذا الظرف كان حقا علينا ان نرجع ما أخذناه بغير حقه ، وحقه هو حمايتكم والدفاع عنكم. يا ليت هؤلاء المفكرين من بين العرب، أشغلوا انفسهم في عملية انتصاب القامة الفكرية لديهم ، وأجهدوا انفسهم من أجل انتاج مفاهيم من عند ثقافتهم وحضارتهم حتى يستغنوا بها مما عند "الآخرين ".





الهوامش: 1. القرآن الكريم . 2. الزمخشري -الكشاف ، المجلد الثاني ، دار الفكر ، بيروت ، ط1، 1983 ، ص527 . 3. نزهة القلوب في تفسير غريب القرآن ، ابي بكر السجستاني . 4. السلطة في الاسلام، ع. ب. ياسين المركز الثقافي العربي الرباط المغرب 1999 ص246.
5. السلطة في الإسلام. ع. ب. ياسين، ص248.
6. اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان – البخاري ومسلم – دار الحديث القاهرة 1986 ص 192 الجزء الثاني كتاب الأقضية.
7. للإستزادة أنظر كتابنا: العقلية الماضوية والقرارات المسبوقة، ص25، 26.
8. "العقلية الماضوية والقرارات المسبوقة " محمد سعيد ريان ، فصل "فلسفة كأنه هو" آفة التلبيس وتصنيع العواطف، مركز الحضارة العربية ، القاهرة ط1 ، 2005 ، ص36 وما بعدها . 9. عندما يصغر التاريخ ، محمد سعيد ريان ، مركز الحضارة العربية ، القاهرة ، ط1 2002 ص48 وما بعدها . 10.المصدر السابق ص48 .
11. محمد أركون : قضايا في نقد العقل الديني، ترجمة هاشم صالح ، دار الطليعة ، بيروت ط1 .، 1998 .ص 280 وما بعدها .
12.المصدر السابق ص39,38 .
13. ابو يعرب المرزوقي ، وحدة الفكرين :الديني والفلسفي ، دار الفكر المعاصر ، بيروت لبنان ،ط1 ، 2001 ، ص52. 14.عبد الله العروي: مفهوم العقل -المركز الثقافي العربي ص2 ، 1997 ، ص322 .









محمد ريان e-mail: mohammedraian@gmail.com

אין תגובות:

הוסף רשומת תגובה